(عن القدس العربي)
عانت صاحبة الجلالة وأصحابها والعاملون فيها أشد المعاناة على مدى عمرها المديد في بلاد العرب. فالصحافة العربية، التي بدأت تحت حكم محمد علي باشا في مصر في العام 1828 “بالوقائع المصرية” وريثة صحيفة نابليون خلال غزوه مصر “العشرية المصرية” بعد أن جلب معه مطبعته التي كانت أول مطبعة تدخل بلدا عربيا (تحولت فيما بعد إلى مطبعة بولاق)، لم تكن سوى الخلية الأولى في جسد صاحبة الجلالة الوليدة في بلد عربي بعد قرنين من ولادتها في فرنسا، والتي ما فتئت تنمو وتترعرع في مصر وسوريا (الكبرى) بشكل متسارع.
لكن السلطنة العثمانية التي شعرت بخطر هذا الوليد الجديد على السلطنة من تفتح العقول سنت قوانينها للحد من حريتها. فوضعت قاموسا من الكلمات التي يمنع استخدامها في الصحف (قنبلة، انفجار، ثورة، اغتيال، جمهورية، مظاهرة…)، ويعاقب من يستخدم إحداها “بالفلقة”(الضرب بالعصا على أسفل القدمين). وإذا استفحل الأمر تغلق الصحيفة، وإذا شعرت السلطنة بخطر أحدهم يتم اغتياله. وكان أول شهيد للصحافة السورية عبد الرحمن الكواكبي الذي أنشأ صحيفة “الشهباء” وألف كتابه الشهير “طبائع الاستبداد” الذي كلفه حياته بعد أن لاحقته السلطنة إلى مصر وقتلته بالسم.
ولم يكن البريطانيون، الذين سيطروا على مصر بأفضل من السلطنة فضيقوا على حرية الصحافة (التي تحترم حريتها في بريطانيا) كما حصل مع الشيخ محمد عبدة، وجمال الدين الأفغاني الذي اضطر لإصدار صحيفته “العروة الوثقى” من باريس. وسلك الفرنسيون المسلك ذاته مع الصحافة السورية التي انتشرت بشكل واسع ولمع صحافيوها فهرب منهم من هرب إلى مصر أيضا وأسسوا هناك صحيفة الأهرام المصرية. وهذا انطبق أيضا على الصحافة الوليدة في دول المغرب العربي في تونس والجزائر والمغرب التي كانت ترزح تحت استعمار فرنسي.
تحت حكم «الأنظمة الوطنية»
اعتقد الصحافيون العرب وخاصة في مصر وسوريا أن ما يسمى “أنظمة ما بعد الاستعمار” أو “الأنظمة الوطنية” بأنها ستكون أرحم من الاستعمار، لكن هذه الأنظمة التي تبنى بعضها الحكم الجمهوري القائم على “الديمقراطية” كنظام سياسي موروث عن الاستعمار كانت أسوأ وأشد قساوة على الصحافة والصحافيين (وعلى الشعوب بشكل عام)، إذ صار الصحافي مهددا في لقمة عيشه، وحريته، بل وحياته. والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى، ففي ظل الانقلابات العسكرية السورية عطلت الكثير من الصحف تحت حكم حسني الزعيم، وحكم أديب الشيشكلي، ولم تتنفس الصحافة السورية نسمة حرية إلا في عهد شكري القوتلي، وناظم القدسي، وهي فترات وجيزة جدا لا تتجاوز السبع سنوات من أصل 76 سنة من الاستقلال.
ففي فترة الوحدة ألغيت الصحافة الحرة، وهرب الصحافيون من سوريا، وكذلك في مصر منذ بداية “ثورة” تموز/يوليو تحت حكم جمال عبد الناصر وحتى اليوم. وينطبق هذا الوضع على العراق وخاصة بعد انقلاب 1958 وحكم عبد الكريم قاسم ثم من جاء بعده إلى اليوم. أما دول الخليج التي عرفت الصحافة متأخرة فجميع الصحف فيها كانت ولا تزال صحف دولة أو موالية. وكذلك في دول المغرب مع استثناء تونس منذ بداية ثورتها التي شهدت انفتاحا لم تكن تتمتع به من قبل.
لم تملك معظم الأنظمة العربية، وخاصة العسكرية منها، أي منطق آخر تجابه به الصحافة والصحافيين الناشدين لحرية الصحافة سوى سن قوانين تمنع إصدار الصحف، واستخدام لغة القتل، أو التغييب في غياهب السجون، أو الترهيب، والترغيب. وتعودت بعض الصحف العربية وبعض صحافييها على سخاء أنظمة عربية تريد شراء صمتها، أو تسخيرها لخدمتها لمناكفة هذا النظام أو ذاك من الأنظمة العربية التي تعاديها. والأمثلة كثيرة لصحافة عربية كانت تقدم الولاءات مقابل الأموال. وجنى صحافيون أموالا طائلة من ولاءاتهم، خاصة بعد أن انتشرت الصحافة المهاجرة في لندن وفرنسا خلال فترة الحرب اللبنانية، والحرب العراقية الإيرانية. لكن بعض الأنظمة وخاصة النظام السوري البعثي ـ الأسدي الذي أعلن قانون الطوارئ الأبدي، ومنع إصدار الصحف، ارتكب العديد من الاغتيالات لصحافيين معارضين حتى من جنسيات أخرى، فشهدنا اغتيال الصحافيين اللبنانيين نذكر منهم (سليم اللوزي، رياض طه، سمير قصير، جبران تويني، والسوري صلاح الدين البيطار وهو رئيس وزراء سابق ولكن لإصداره صحيفة الإحياء العربي المعارضة من باريس). واستفحل الأمر مع حكم الوريث بشار الأسد وخاصة بعد انطلاق الثورة السورية حيث تم قتل لا يقل عن 700 صحافي حسب توثيق منظمات دولية. وارتكبت ميليشيات متطرفة كتنظيم الدولة (داعش) انتهاكات خطيرة ضد الصحافيين وقد اغتالت الصحافي ناجي الجرف في غازي عنتاب. وفي ليبيا تم اغتيال مجموعة من الصحافيين، واختفى صحافيان تونسيان إلى الأن لم يعرف مصيرهما. في لبنان (الذي كان المتنفس الوحيد للصحافة العربية)، ومنذ سيطرة حزب الله على مفاصل الدولة لم تعد حرية الكلمة مضمونة لأن الاغتيال هو اللغة الوحيدة المستعملة كما حصل مع الباحث الفرنسي ميشيل سورا، والصحافي والباحث اللبناني لقمان سليم، ومهدي عامل، وحسين مروة على سبيل المثال لا الحصر.
الصحافة الفلسطينية والاحتلال
بدأت الصحافة الفلسطينية بصحيفة ” القدس الشريف” في العام 1867، وكانت فترة ركود، ولم تنتعش إلا مع بدايات القرن العشرين، وبعد سقوط السلطنة العثمانية، تم إصدار مجموعة من الصحف كانت في معظمها تابعة لإرساليات دينية أو لشخصيات محسوبة عليها. مع الغزو الاستعماري البريطاني لم يختلف الأمر كثيرا بل أصدرت دولة الانتداب قوانين تحد من اصدار الصحف، ونجح بعضها في الإفلات من قبضتها في البداية كصحيفة “سوريا الجنوبية” لعارف العارف، وصحيفة “مرآة الشرق” لبولص شحادة التي أغلقها الانكليز عام 1939 فالمستعمر البريطاني كان يضيق على الصحافة والصحافيين المناهضين لهجرة اليهود ويمنع صدورها، أو يلفق أحكاما لصحافييها. وفي المقابل عمل على تنشيط الصحافة الصهيونية الداعية للاستيطان. وقد بلغ عدد الصحف الفلسطينية الصادرة خلال هذه الفترة أكثر من أربعين صحيفة. مع سيطرة الحركة الصهيونية على فلسطين بعد النكبة اختفت معظم الصحف الفلسطينية تحت ضربات الاحتلال، وهاجر بعضها مع الشتات فوقعت تحت قوانين الصحافة لدول الشتات واختفت بدورها، بقيت صحيفة “الحرية” التي أصدرها القوميون العرب، وعندما تشكلت الفصائل الفلسطينية تم إصدار صحيفة “فتح” كصوت لمنظمة التحرير، وأصدر غسان كنفاني صحيفة “الهدف” وتم اغتياله من قبل دولة الاحتلال، وصحيفة “المعركة” التي قتل رئيسها علي فودة بقصف إسرائيلي. واستولت دولة الاحتلال على مركز الأبحاث الفلسطينية خلال غزوها لبيروت. وسيطر نظام الأسد على المؤسسات الفلسطينية والأرشيف الفلسطيني في دمشق. وتم اغتيال الصحافي والرسام الشهير ناجي العلي في لندن. وبعد اتفاق أوسلو ظلت إسرائيل تلاحق الصحافيين والاعتداء عليهم في الضفة الغربية، وغزة، والقدس، وجاء اغتيال الأيقونة شيرين أبو عاقلة مؤخرا كأبلغ مثال على إجرام دولة الاحتلال في تصفية الصحافيين الذين يشكلون خطرا عليها. وهكذا نرى أن الصحافي هو الوحيد المهدد في مهنته تحت الأنظمة العربية ودولة الاحتلال.
كاتب سوري