(عن القدس. العربي)
منذ بدايات هذا القرن بدأ موضوع منع المسلمات بارتداء الحجاب في فرنسا يأخذ أبعادا مختلفة. هذا الموضوع طرح على أكثر من صعيد، وتم نقاشه على مستوى واسع في المؤسسات الفرنسية، وتفاقمت بسببه احتجاجات المسلمين والمسلمات، فرنسا حقوق الإنسان، فرنسا الحرية، فرنسا القانون، فرنسا الاعتدال ضاق عليها حجاب امرأة مسلمة. فماذا حل في فرنسا؟
أعداد المسلمين في فرنسا تجاوز ستة ملايين مسلم، ما يساوي10% من الشعب الفرنسي. ( هذا الرقم لا يشمل المسلمين غير المتجنسين). منهم نسبة لا بأس بها من المسلمين الفرنسي الأصل اعتنقوا الإسلام. لقد كانت فرنسا (وهي معقل وحامية الكاثوليكية في العالم) قد سمحت للمسلمين بممارسة شعائرهم الدينية وبناء مساجدهم، ومسجد باريس الكبير تحفة معمارية تم بناؤه في العام 1926 أي منذ قرابة القرن شاهد على ذلك. لم يشعر المسلمون بأنهم مستهدفون إلا مع نهايات القرن الماضي، إذ بدأت بعض الأصوات تنادي بترحيل العمال الأجانب (ويقصد المسلمين ومعظمهم من المغرب العربي)، بعد أن بدأت فرنسا تشعر بالانحسار الاقتصادي، وبأن أعداد العاطلين عن العمل ترتفع بوتيرة ملحوظة، وكان ذلك في عهد الرئيس الفرنسي الراحل فاليري جسكار ديستان، حيث بلغ عدد العاطلين في تلك الفترة حوالي 3 ملايين عاطل عن العمل ما يعادل تقريبا 8% من اليد العاملة. وكان الحل هو صرف العمال الأجانب، وفي تلك الفترة تم إنشاء حزب الجبهة الوطنية المتطرف بزعامة جان ماري لوبن (والد مارين لوبن الذي حارب في الجزائر خلال الثورة الجزائرية) الذي كان شعاره “فرنسا للفرنسيين”. ولم يكن يحظى من المؤيدين في ذاك الوقت أكثر من 2% من الشعب الفرنسي، وسياسته في واقع الأمر كانت أيضا معادية للأحزاب اليسارية وحتى اليمين المعتدل. ولم يكن يحظى باهتمام كبير، خاصة أن الحزب لم ينجح إلى الآن بكسب معركة الرئاسة رغم وصول جان ماري لوبن وابنته أكثر من مرة إلى الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية، ولم يتمكن الحزب من الفوز بأكثر من 8 مقاعد في البرلمان ( وهذه أفضل نتيجة وصل إليها) من أصل 577 نائبا. مع بداية الثمانينيات وموجة العمليات الإرهابية في فرنسا (قام بها النظام الإيراني والسوري)، وفي لبنان ( تم خطف عدة صحافيين فرنسيين وقتل ميشيل سورا، واغتيال السفير الفرنسي لويس دو لامار..)، ثم تفاقمت مع ظهور القاعدة وعملية 11 سبتمبر التي كانت لها انعكاسات خطيرة في فرنسا، ثم تبعتها عمليات داعش الإرهابية الدموية التي صدمت الفرنسيين بعد مقتل حوالي مئتي فرنسي في عدة عمليات إرهابية دامية. هذه الأمور مجتمعة جعلت جزءا من الشعب الفرنسي يتجه نحو اليمين المتطرف المتمثل بالجبهة الوطنية ( تحول اسم الحزب إلى التجمع الوطني فيما بعد). وبدأت موجة الإسلاموفيا (كراهية المسلمين) تظهر للعلن.
الحملة الانتخابية الفرنسية للرئاسة هذه المرة ابتعدت عن السياسة والاقتصاد وركزت على الدين، وعلى الإسلام تحديدا. والخبر اليقين لرؤية الخيط الأبيض من الأسود هو يوم الأحد
على يمين اليمين المتطرف (التجمع الوطني بزعامة مارين لوبن)، ظهر حزب جديد باسم “عودة الفتح” (وبالطبع الاسم يذكر بالفتح الإسلامي) يتزعمه اليهودي الجزائري إريك زمور الذي قاد حملة شرسة ضد الإسلام والمسلمين، وحذر من أن الحضارة الإسلامية لا تتوافق بأي طريقة كانت والحضارة الفرنسية وهي تنوي هدمها، ووعد في حاله نجاحه في الانتخابات الرئاسية التي تقدم إليها بطرد المسلمين من فرنسا، وأثارت هذه التصريحات جدلا كبيرا في فرنسا وتعرض زمور إلى انتقادات كثيرة بل واعتداء في كل مرة يزور فيها منطقة ما يقطنها مسلمون. وكانت المفاجأة الكبيرة بأن هذا الحزب الذي تم تشكيله العام الماضي قد استطاع أن يحصل على 7% من الأصوات ويأتي في المرتبة الرابعة بعد حزب إيمانويل ماكرون “فرنسا السائرة” الذي حصل على 27,8% من الأصوات، وحزب مارين لوبن ( التجمع الوطني) الذي حصل على 23,1% من الأصوات، وحزب جان لوك ميلانشون”فرنسا المتمردة”(يسار) الذي حصل على 22% من الأصوات. وقد دعا زمور ناخبيه للتصويت لمارين لوبن ومعنى ذلك أنه في حال ضم أصوات اليمين المتطرف ستحصل لوبن على حوالي 30% وهذه ستكون أفضل نتيجة لهذا الحزب منذ تأسيسه، وربما انضم أيضا بعض الراغبين في تغيير السياسة الفرنسية الماكرونية ما يجعلها تقترب من سدة الرئاسة (لكن قناعتي أنها لن تنجح في ذلك)، فمن الجانب الآخر دعا ميلانشون ناخبيه بعدم التصويت للوبن، وبمعنى آخر التصويت لماكرون أو الامتناع عن التصويت. وتبقى أصوات المسلمين في فرنسا التي يتنافس عليها المرشحان الرئاسيان ماكرون ولوبن
لم يكن الحجاب يشكل مسألة للنقاش في فرنسا، لكن البعض وجد في الحجاب أنه يمثل خطرا على العلمانية في فرنسا ومعضلة للهوية الفرنسية، وتم تشكيل لجنة لدراسة الموضوع في جوانبه المختلفة لكنه لم يخلص إلى قرار بمنع الحجاب، بل أن الرئيس السابق نيكولا ساركوزي أصدر قانونا بإظهار الوجه في صورة الهوية، ثم لمح رئيس الوزراء السابق إيمانويل فالس إلى منع الحجاب في الأماكن العامة، لكن المسألة أثيرت أكثر حدية عندما تم إصدار قانون بمنع الحجاب لطالبات المدارس وأي شارة دينية أخرى كالقلنسوة اليهودية، والصليب المسيحي. ثم أصدرت وزيرة العدل إليوت ماري قانونا يجرم من يجبر أي امرأة بارتداء الحجاب بالسجن سنة ودفع غرامة تصل إلى 30 ألف يورو، وضعف العقوبة إذا كانت الفتاة قاصرا. وبغرامة تصل إلى 150 لكل امرأة ترتدي البرقع في الأماكن العامة.
في هذه الانتخابات لم تعد جائحة كورونا، أو الانحسار الاقتصادي، أو التضخم، هي مواضيع يخوض بها المرشحان المتناطحان، بل الحجاب الإسلامي. وهذا لأن المرشحة ماري لوبن تريد منع الحجاب في حال فوزها بالانتخابات، ويستغل ماكرون هذا الإجراء ليعمل ضده لكسب أصوات المسلمين الذين باتوا بيضة القبان في هذه الانتخابات وعليهم يعول المرشح ماكرون للفوز بأكثرية مريحة أمام منافسته لوبن التي ما لبثت تهدده بجمع كل أصوات من هم ضد المسلمين وارتداء الحجاب، وهو يذكر بأن منع الحجاب سيجر وراءه أيضا منع القلنسوة والصليب وهذا ما سيغضب بالطبع اليهود والمسيحيين. وفي اللحظة الأخيرة حاولت لوبن التراجع قليلا واعترفت بأن المسألة معقدة وتحتاج لنقاش تحت قبة البرلمان في خطوة أخيرة لكسب أصوات المسلمين غير الراضين عن ماكرون، وباختصار فإن الحملة الانتخابية الفرنسية للرئاسة هذه المرة ابتعدت عن السياسة والاقتصاد وركزت على الدين، وعلى الإسلام تحديدا. والخبر اليقين لرؤية الخيط الأبيض من الأسود هو يوم الأحد 24 نيسان/ أبريل 2022.