عن القدس العربي
لم يكن الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران مخطئا عندما قال:
“أنا آخر الرؤساء الكبار في فرنسا ومن بعدي لن يكون هناك سوى المتمولين والمحاسبين” وإن جاء بعده رئيس من كبار رؤساء فرنسا كجاك شيراك، لكن بعده كما قال، بدأت الحياة السياسية في فرنسا تتحول وخريطة الأحزاب السياسية تتغير.
إذ كانت فرنسا ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية تسيطر عليها مجموعة صغيرة من الأحزاب: الحزب الشيوعي الذي كان الحزب الأول في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، الحزب الاشتراكي الذي كان الحزب الأول قبل الحرب العالمية الثانية مباشرة، أي خلال فترة حكم ليون بلوم.
الحياة السياسية
ومن اليمين البونابرتي والديغولي. هذه الأحزاب طبعت الحياة السياسية الفرنسية خلال ثلاثة عقود ( بالطبع كانت هناك عشرات الأحزاب الأخرى التي كانت تدور في فلك هذه الأحزاب أو قريبة منها لكن لم تكن لها أدوار سياسية ذات أهمية). وكانت تتناوب السلطة فيما بينها حسب التطورات السياسية والاقتصادية في البلاد التي كانت تقدم هذا الحزب أو ذاك حسب برامجه الانتخابية وكارزمية مرشحيه.
وتبقى شخصية الجنرال شارل ديغول الأقوى بين كل رؤساء فرنسا ما بعد الحرب كونه تمتع بشرعية تحرير فرنسا من النازية التي أعطته زخما سياسيا كبيرا رغم بروز الحزب الشيوعي كأول حزب في فرنسا في تلك الفترة ( تأسس الحزب الشيوع في العام 1920 بانشقاق عن الحزب الاشتراكي الذي كان يحمل اسم الفرع الفرنسي للعمالية الدولية).
وقد اكتسب شعبيته بالانخراط في مقاومة النازية ومقتل عشرات الآلاف من أنصاره. لكن الديغولية بدأت تتمدد وتحرز تقدما على باقي الأحزاب بعد تحرير فرنسا من النازية.
ديغول والجمهورية الخامسة
خرجت فرنسا من الحرب العالمية الثانية منهكة ومدمرة ومقسمة بين من كان يؤيد الماريشال بيتان المتعاون مع النازية في حكومة فيشي، وبين المقاومين للنازية بقيادة الجنرال شارل ديغول. بالإضافة إلى النظام السياسي للجمهورية الرابعة التي لم يكن فيها رئيس الدولة منتخبا من قبل الشعب، إّذ تم ذلك بعد استفتاء ،1962، ثم لم يكن للمرأة حق التصويت (منحت المرأة الفرنسية حق التصويت في العام 1944 بأمر من الجنرال ديغول)، كان لابد من الخروج من فترة ما بعد الحرب وتحقيق الاستقرار السياسي الذي لم يتم إلا بعد إعلان الجمهورية الخامسة في العام 1958 من قبل ديغول والتي مازالت مستمرة إلى الآن. لكن ديغول الذي سيطر على السياسة الفرنسية بعد الحرب ورغم إنجازاته الكبيرة إنهاء حرب الجزائر بقوله الشهير: “لقد فهمتكم أيها الجزائريون” وإنهاء فرنسا “الجبنة والشامبانيا” كما قال لتدخل في عصر صناعي أكثر دقة وانتشارا، أضطر إلى الاستقالة بعد انتفاضة الطلاب والعمال في 1968، واستفتاء 1969.
واستلم جورج بومبيدو الحكم الذي ستعرف فرنسا من بعده تحولات جوهرية في تشكيلاتها الحزبية وبرامجها السياسية، التي كانت انعكاسات لأحداث وتطورات سياسية واقتصادية واجتماعية جعلت الأحزاب التقليدية تفقد أمكنتها على الساحة السياسية.
في العام 1970 قام المحارب القديم جان ماري لوبن الذي فقد عينه في حرب الجزائر بإنشاء حزب “الجبهة الوطنية” القائم على التصدي للهجرة والعمالة الأجنبية، وخاصة العربية منها، ومعاداة اليسار بشكل عام، وفي الوقت نفسه بدأ الحزب الاشتراكي بعد تحالفه مع الحزب الشيوعي بالصعود رغم خسارة المرشح الاشتراكي فرانسوا ميتران أمام مرشح اليمين فاليري جسكار ديستان (عن حزبه الجمهوريون المستقلون) بفارق ضئيل جدا، لكنه استطاع الفوز في العام 1981 أمام المرشح الديغولي جاك شيراك، ووصل الحزب الاشتراكي إلى أوج شعبيته لفترتين رئاسيتين. ثم بدأ بالهبوط التدريجي والخروج من السباق الرئاسي بعد فوز فرانسوا هولاند الذي سيكون الاشتراكي الأخير يتبوأ هذا المنصب لأن الحزب فقد شعبيته كاملا، فمرشحته لهذه الانتخابات في هذه الدورة، آن هيدالغو لم تحصل على أكثر من 1,75 في المئة من الأصوات وهي أخفض نسبة وصل إليها الحزب الاشتراكي منذ تأسيسه، وكذلك الحزب الشيوعي الذي لم يحصل مرشحه فابر روسل على أكثر من 2,1 من الأصوات.
في تلك الأثناء استمر حزب الجبهة الوطنية بالصعود واكتساب شعبية كبيرة ساعده في ذلك عاملان رئيسيان: الأزمة الاقتصادية، والعمليات الإرهابية التي ارتكبها إرهابيون مختلفون من أصول عربية وإيرانية حتى وصل الحزب لينافس الأحزاب الكبيرة حيث استطاع جان ماري لوبن الوصول للدورة الثانية في الانتخابات الرئاسية لعام 2002 أمام جاك شيراك، وواصلت ابنته مارين لوبن رئاستها للحزب الذي بدلت اسمه إلى” التجمع الوطني” وواصلت الصعود إلى أن وصلت اليوم لتكون ثاني أكبر حزب في فرنسا، والدليل على أنها حصلت في هذه الدورة على نسبة 23.1 في المئة من الأصوات وستواجه إيمانويل ماكرون في الدورة الثانية الذي حصل على 27,8 من الأصوات، ومن المرجح أن يفوز بدورة ثانية في هذه الانتخابات.
بروز الأحزاب الجديدة
منذ العام 2015 ظهرت مجموعة من الأحزاب الصغيرة الجديدة التي بدأت تأخذ مكان الأحزاب التقليدية كحزب إيمانويل ماكرون “الجمهورية تتقدم” الذي أسسه في العام 2016 واستطاع بالفوز بفترة وجيزة بعد تأسيسه ليكون أول رئيس يفوز بهذه السرعة بعد أن خسر نيكولا ساركوزي الانتخابات بسبب فضائح مالية تقاضاها من العقيد الليبي الراحل معمر القذافي مقابل فرانسوا هولاند كآخر اشتراكي يفوز بالرئاسة وربما الأخير، ويخسر أمام الشاب الصاعد ماكرون. أو كحزب المرشح اليهودي الجزائري إريك زمور “عودة الفتح” المتطرف، والمعادي للعرب والمسلمين الذي أسس في نيسان-أبريل 2021 وحصل على 7 في المئة من الأصوات، وطلب من مناصريه التصويت لمارين لوبن في الدورة الثانية لأنها تشاركه التوجهات السياسية نفسها، ولكن هذا لن يهدد ماكرون، لأن أصوات حزب جان لوك ميلانشون “فرنسا المتمردة” الذي جاء في المرتبة الثالثة بنسبة 22 في المئة، وهو الناجي الوحيد من غرق اليسار السياسي، ستذهب لماكرون حسب طلبه من مناصريه، لقطع الطريق على اليمين المتطرف. وهكذا بدأت فرنسا تتأرجح بين يمين متطرف، ويمين شبه متطرف، بعد أن كانت تتأرجح بين يسار معتدل، ويمين معتدل.
كاتب سوري