من الأدب الفرعوني
ترجع حوادث هذه القصة إلى عهد الملك نبكاورع آخر ملوك الأسرة العاشرة التى حكمت 2123 - 2052 ق.م. في الألف الثالث قبل الميلاد، ويحكى أن ساكن حقل ( في اللغة الفرعونية تعني فلاحا)، واسمه "خر أن توب" وهو فلاح من "حقل الملح" وادي النطرون حاليا، وقد أطلق عليه في العهد المسيحي (صحراء النطرون)، وكان هذا الفلاح يسافر من حين إلى آخر إلى إهناسيا مصر ليبيع محصوله محملا على حمير له، ويعود من مصر محملا ببضائع أخرى، ذات مرة وقد وصل إلى مصر فرآه أحد الموظفين ويدعى "تحوت تخت" ويعمل مع رئيس مديري القصر الملكي واسمه "رنزي بن مرو" يقترب وأراد أن يسلب محصوله، فخلع إزاره وبسطه على الأرض فلما وصل أول حمار لمحاذاته داس على الإزار بحوافره، وسارع "خر إن توب" وساق حميره بعيدا عن الإزار فدخلت حقل شعير، فأعترض تحوت تخت الفلاح وقال له لقد أهنت الدولة والفرعون لأن هذا الإزار عليه شعار الدولة وقد داسه حمارك، ثم جاءت حميرك لتدوس في حقل الشعير وتأكل منه، وعليه فإني سأحجز على بضاعتك وحميرك، وأضعك رهن الاعتقال وأخذ قضيبا وضربه ضربا مبرحا. فشكا الفلاح أمره لقاضي المدينة فلم ينصفه ووقف مع تحوت نخت. فما كان من الفلاح إلا أن كتب رسالة تظلم في غاية من الجمال، وسلمها لحاجب الفرعون "رنزي"قال فيها: ": يا مدير البيت العظيم: أنت أبو اليتيم وزوج الأرملة، ودثار من لا أم له، دعنى أجعل اسمك يتفق مع كل قانون عادل، فتكون حاكما خلا من الشر، شريفا بعيدا عن الدنايا، مهلكا للكذب، مشجعًا للعدل، ورجلا يلبى نداء المستغيث، إنى اتكلم.. أقم العدل، اقض على فقرى إننى مثقل، انظر إنى فى حيرة " الذي أعجب بها، وبفصاحة هذا الفلاح، وقرر أن يعرضها على الملك. عندما قرأها الملك أمر بأن لا ترد البضاعة للفلاح، فتعجب حاجبه وقال: كنت أعتقد أنك ستنصف هذا الفلاح المسكين، فأجابه الملك لقد كتب هذا الفلاح قطعة أدبية تستحق التقدير وهي تغني مكتبتنا الأدبية لهذا قررت أن نحجز على البضاعة بعد أن نعاقب تحوت تخت السارق، والقاضي الفاسد الذي يقف إلى جانب الباطل ضد الحق، ونترك الفلاح يكتب عدة شكاوى تكون بمثابة كنز أدبي لتغني المكتبة الأدبية في بلادنا، بقي الفلاح معتقلا في مصر واستمر في كتابة الشكاوى، فكتب الشكوى الثانية:" أنت ياساكن السماء ومثقال ميزان الأرض، ياخيط الميزان الذى يحمل الثقل لا تنحرف لا تتذبذب ملتويا.. ويختم شكواه الطويلة يقوله: أنت يا مرشد كل غارق نج من غرقت سفينته " وكانت كل شكوى أفضل من سابقتها وجاءت الثالثة:" إن ما يزيد من وزن للبلاد هو إقامة العدل، لاتكذبن وانت عظيم ولاتكونن خفيفا، وأنت رزين ولا تقولن كذبا فإنك الميزان، ولا تنكمش فإنك الاستقامة، إن لسانك هو ثقالة الميزان، وقلبك هو ما يوزن به، وشفتاك هما ذراعاه فإذا سترت وجهك أمام الشرس فمن الذى يكبح الشر؟ فالرابعة:" الرجل الجشع يعوزه النجاح، لكنه ينجح فى الخيبة.. إن مكيال القمح قد طفح، وإذا اهتز فإن الفائض يبعثر على الأرض.. أقم العدل لرب العدل الذى عدل عدالته موجود، وأنت أيها القلم، وأنت أيتها البردية ويا أيتها الدواة ويا «تحوت» ابتعدوا عن السوء عندما يكون الحق حسنا، فالأمر إذن حسن" حتى بلغت تسع شكاو، فأفرج الفرعون عن الفلاح وعن البضاعة مع دفع الأضرار ومكافأة له نقل أملاك "تحوت نخت" للفلاح المظلوم "خر إن توب".
هذه القصة التي ترجمت من اللغة الهيروغليفية وجاءت في كتاب أدب الفراعنة للكاتب سليم حسن، تظهر مدى الحرص على الثقافة في عهد يعتقد البعض أن تلك المجتمعات لم تكن تعنى بالأدب، والثقافة، وأن الناس في عهدها كانوا مظلومين ويعاملون بقسوة. ومن ناحية أخرى تبين أن الفرعون الذي تلقى الشكوى قد أنصف الفلاح الغريب ضد أحد موظفيه. وهذا يسوقنا إلى اليوم حيث أي شبيح من شبيحة فرعون سوريا وريث النظام الأسدي الذي جعل من السوريين عبيدا يمكنه أن يسلب أي مواطن ويعتدي عليه، دون وازع ولا منصف للمعتدى عليه، ولو تمادى وكتب شكوى لفرعون قصر المهاجرين لساقه أحد أفراد مخابرات الفروع الأمنية بتهمة الخيانة والتآمر على أمن الدولة وزجه في سجن صيدنايا، وهو أحد المسالخ البشرية المنتشرة في سوريا، منذ أن اغتصبت سلالة العائلة الأسدية الحكم فيها، وهناك لن يخرج إلا وقدميه إلى الأمام إلى أول مقبرة جماعية.