حداد المداد الممدود على دمشق يا درويش

الشاعر محمود درويش
الشاعر محمود درويش

عن القدس العربي

دمشقيا كنت أقف على حافة القول، أبحث بسراج يلعق فتيله نورا يكاد يضيء، عن كلمة، عن بيت شعر، عن حكاية تحتضن عطشا لكلمات ليست كالكلمات تسربت من إسراء سماوي، أو من أحلام ليل عربي طويل، وكنت في الكلم غرا، وفي الخط تتعثر خطاي، أحبو حبو الكسيح، وأعشى في ظلمة القول الفسيح.

ظل مئذنة الأموي

في واجهة دكان الوراقين في المسكية، وتحت ظل مئذنة الأموي في يوم هجير، كنت هنا يا محمود تقول:

” في دمشق تسير السماء على الطرقات القديمة حافية، حافية، فما حاجة الشعراء إلى الوحي والوزن والقافية؟ّ”.

أمسكت أشم رائحة المداد الممدود على ورق ديوانك، أتتبع لحظ السماء تخلع نعليها المبللين بديم سخية لتمشي حافية على طرقات دمشق القديمة، تتبعتك تقول:

” في دمشق يواصل فعل المضارع أشغاله الأموية، نمشي إلى غدنا واثقين من الشمس في أمسنا نحن والأبدية سكان هذا البلد”

في دمشق يا محمود حل الماضي في المضارع الذي أضاع خيط المستقبل، وتاهت الأبدية على طرقات المهاجر، وغصة الرضع في المحاجر.”

في دمشق تطرز أسماء خيل العرب من الجاهلية حتى القيامة، أو بعدها بخيوط الذهب” في ظل مئذنة الأموي كان مدادك هنا يحكي قصة دمشق، وترى بالأمس خيل عرب الجاهلية مطهمة مطرزة بالذهب، واليوم ليتك ترى:

“لا الخيل ولا الليل ولا البيداء تعرفهم ولا السيف ولا الرمح ولا القرطاس ولا القلم” والجاهلية عادت بضبيح خيلها مطرزة بالحقد والدم والخيانة وتقترب منا القيامة.

قلت: ” لا أعود من الشام حيا ولا ميتا بل سحابا يخفف عبء الفراشة عن روحي الشاردة”.

روح فلسطين الشاردة

“كان الصيف يختصر، وكروم الشام تعتصر، وشآم أهلها أحبابك، وفي تشردي صعدت إلى بابك، في ساحة باريسية، أبحث عن روح فلسطين الشاردة في يوم ريح ومطر”

وكنت على موعد معك وبيننا ريتا وتبغك وكبرياؤك وقولك الذي كنت أبحث عنه بسراجي:

“أيها المارون بين الكلمات العابرة، كدسوا أوهامكم في حفرة مهجورة، وانصرفوا وأعيدوا عقرب الوقت إلى شرعية العجل المقدس، أو إلى توقيت موسيقى مسدس”

في عينيك كانت ترتسم صورة بيتك في البروة تخفق فوقه برفيف الحياة عصافير الجليل كنت أراها تحلق وأنت تنظر إلي وتقول

“نلتقي بعد قليل، بعد عام، بعد عامين، وجيل، ورمت في آلة التصوير عشرين حديقة وعصافير الجليل، ومضت تبحث خلف البحر عن معنى جديد للحقيقة وطني حبل غسيل لمناديل الدم المسفوك في كل دقيقة، وتمددت على الشاطئ رملا ونخيل”

صارت حجار الشام التي كانت حديثنا، يا محمود، في هذا الزمن الرذيل، وتحت الحكم السفيل كحجارة البروة تحت ظل صهيون في الجليل. ووطني صار حبالا من دم ودموع وعويل.

نشرت كلامك على الأثير وضج المستمعون وصرخوا: هل من مزيد. في البيت اللبناني في المدينة الجامعية الباريسية كان طلال حيدر يصدح بقصيدة:

“وَحدُهن بيبقوا متل زهر البيلسان، وحدهن بيقطفوا وراق الزمان، بيسكروا الغابي، بيضلهن مثل الشتي يدقوا على بوابي يا زمان”..

“بغيبتك نزل الشتي قومي اطلعي عالبال.. وديت راعي حماة يشوف لي الطريق شمال، قال لي طالع السنة هوا بيوقع الخيال، يا ريت ما سرجت الفرس ولا بعتت هالمرسال” فدائيو الغابة لم يعودوا من فلسطين هناك لفظوا الشهادة على تراب أرض الأنبياء والجبارين، وراعي حماة القتيل لم يستلم المرسال وصارت حماة حبل الغسيل الذي علق عليه بنو أسد العويل.

بين ريتا وعيوني بندقية

كنت إلى جانبك أتظلل مفتخرا بردائك، وأمامنا فواز الطرابلسي قلت لي: “هذا طريق الشام معبد بالنار من حماة إلى البروة”.

في قاعة اليونيسكو المكتظة كنت أستمع إليك تلقي بصوتك الجهور قصائدك، ومارسيل خليفة يغنيها:”بين ريتا وعيوني بندقية والذي يعرف ريتا ينحني لإله في العيون العسلية” كان الناس بالحب سكارى وماهم بسكارى، وكان الحب لمحمود ولأرض الأنبياء والجبارين، كان زمانا يا زمان، وخان الأعاريب العربين، وقالوا للنؤاسي من زمن: هل ذكرت بني أسد، قال: لله درك قل لي من بنو أسد ومن تميم وأخوتهم، ليس الأعاريب عند الله من أحد”.

في لندن كقاعة اليونيسكو صدحت بقصائد تقول: “غريبٌ على ضفة النهر، كالنهر يَرْبِطُني باسمك الماءُ، لا شيءَ يُرْجعُني من بعيدي إلى نخلتي: لا السلامُ ولا الحربُ لا شيء يُدْخِلُني في كتاب الأَناجيلِ لا شيء يُومِضُ من ساحل الجَزْر والمدّ ما بين دجْلَةَ والنيل ” كنت أتظلل مفتخرا برداء نزار قباني بجانبي الذي همس بأذني:” انطلق محمود من القضية إلى العالمية”.

نزار قباني

في جامعة أم درمان سمعت آخر قصائدك وكنت كما قلت على النيل، وكنت في ثوب عليل وقلت لي عن نزار “قلت له حين متنا معا، وعلى حدة.. أنت في حاجة لهواء دمشق، فقال سأقفز بعد قليل لأرقد في حفرة من سماء دمشق. فقلت.. انتظر ريثما أتعافى لأحمل عنك الكلام الأخير انتظرني ولا تذهب الآن… قال انتظر أنت عش أنت بعدي لا بد من/ شاعر ينتظر/ فانتظرت وأرجأت موتي” جلسنا على طاولة فندق على شاطئ النيل، دخنت ربما آخر لفافة تبغ، وعدت إلى رام الله، في آخر لقاء كنت تمشي على مهل بعد أن أرجأت موتك منحنيا قليلا بنحول آلمني وكأن الموت أرجأك قليلا أو لم يرجئك وقلت:

” يُخَيّل لي أن عمري قصير، وأني على الأرض سائحْ ولو بَقيَتْ في دمي نبضةٌ واحدةْ تُعيد الحياة إليّ لو أنّي أفارق شوك مَسَالكنا الصّاعدة لقُلتُ ادفنوني حالًا أنا توأم القمة الماردة”

دخلت إلى حرم أبديتك يا توأم القمة الماردة، وبيدي باقة بنفسج لأنه مثلي ورد حزين، وديوان شعرك، قرأت على قبرك قصيدة من ديوانك ومن القرآن الفاتحة، ومن باقة البنفسج تفوح رائحة :

“على هذه الأرض ما يستحق الحياة: على هذه الأرض سيدة الأرض، أم البدايات أم النهايات. كانت تسمى فلسطين. صارت تسمى فلسطين. سيدتي أستحق، لأنك سيدتي، أستحق الحياة”.

على هذه الأرض، سيدة الأرض ما يستحق الحياة، قرأتها على شاهدة لحدك ومضيت مع الكلمات أولي وجهي شطر دمشق، وفي يدي شمس أكتب اسم بلادنا عليها لأنها تستحق الحياة، وترن في أذني قافياتك ورنين الصوت الدرويشي يصدح على القمة الماردة، لأنك توأمها لن تموت يا محمود.

“في ذكرى ميلاد محمود درويش “13.2.1941

كاتب سوري