كان يوما حزينا يوم تحلقنا حول سيدة حموية في منزل ابنها في باريس. جاءته بعد مجزرة حماة بأسابيع قليلة، التي يصادف ذكراها الأربعين هذا الشهر، لأنه لم يبق لها في الحياة سواه. قضى نظام الإجرام على العائلة بأكملها وتجنبوا الأم لتموت حزنا وقهرا على أكبادها الذين رأتهم يتلقون رصاص الإعدام على جدار مقابل. وعندما هرع الأب يستجدي الرأفة بأولاده تلقى رصاصة ألحقته بهم. كانت الأم تحمل منديلا تجفف دمعا وهي تقص ثم تغص بحشرجة تمنعها من الكلام وهي تجفف دمعا منهملا. تصمت قليلا ثم تهذي من رؤية المشهد أمام عينيها مرة أخرى، تضرب على فخذيها وتتابع: جاؤونا في منتصف ليل وكنا نياما، أحاطوا المدينة بمدرعاتهم، سمعنا أزيز طائرات، ثم هدير انفجارات لم تتوقف. استيقظنا مذعورين كانت أياما مرعبة لم تأخذنا فيها سنة ولا نوم. دخل بعدها الجزارون المدينة يدقون أبواب بيوتها بكعب البنادق والأحذية ويطلقون النار على كل من يخرج منها. باب منزلنا كان أضعف من أن يصمد لرفسة قوية من بسطال. دخلوا المنزل وشحطوا أولادي خارجه، اصطفوا مع عشرات آخرين ووجوههم تقابل الجدار مقابل وفتحوا عليهم فوهات الرصاص. ثم تصرخ: الله ينتقم منكم يا آل الأسد، الله يحرمكم من أولادكم كما حرمتموني من أولادي، الله يريكم أياما سوداء كسواد هذا الليل.. تتوقف قليلا ثم تستطرد: يا حرام على بيت علوان ذبحوهم ذبحا حتى أطفالهم قتلوا ذبحا، جيراننا عائلة أبو سن قتلوها على بكرة أبيها حتى النساء بعد أن اغتصبوهن أمام أزواجهن، أنا لم يكن عندي فتيات ولو كان عندي لاغتصبوهن. ماذا أقول.. ماذا أحكي.. وبقيت تهذي وتلطم على فخذيها، وتجفف دموعا منهملة بغزارة وتردد: "الله يبعتلكم يا آل الأسد ظالما أظلم منكم".
لم يدخل المدينة الجريحة سوى صحفي فرنسي واحد يعمل في صحيفة ليبراسيون (سورج شالاندون) روى مشاهدات مرعبة بعد المجزرة، دمار، دماء طازجة ما زالت في الشوارع وعلى الجدران، جثث القتلى مازالت على الأرصفة لم تدفن في المقابر الجماعية التي طمر الجزارون فيها آلاف القتلى، خلفوهم وراءهم وكأنهم نعاج ذبحت. على أحد الأرصفة تناثرت أصابع قطعت من أكف رجال وهم أحياء قبل الإجهاز عليهم. مشاهد قتل سوريين يصعب تصور أنها بفعل سوريين، ما الحقد الذي يدفع سوري يذبح سوريا آخر، وماذا ارتكب أطفال أبرياء من كل ذنب ليقتلوا وهم يتحلقون حول شاحنة خبز وضعت كمصيدة للأطفال للجائعين حتى يقتلوهم جماعة، ماذا اقترفت النساء ليغتصبن ويقتلن بغير ذنب، لماذا كل هذا الحقد على مدينة أبي الفداء لتدمر ويقتل عشرات الألاف من مسلميها..حتى ولو اعتصم فيها بضع مئات من الإخوان المسلمين ناهضوا حكم حافظ الأسد الذي أمر أخاه رفعت بسراياه الطائفية باستباحة المدينة وقتل مسلميها وكأن هولاكو وتيمور الأعرج عادوا من جديد. لا شيء يبرر المجزرة سوى ترسيخ الشرخ الطائفي بين مكونات الشعب السوري الذي كان يعيش في لحمة، واليوم جاء وريثه بشار ليدمر ليس حماة فقط بل كل المدن السورية ويقتل مئات الألاف من مسلميها، ويهجر الملايين، لماذا كل هذا الحقد، وهذا الإجرام على شعب يبحث عن كرامته وحريته بعد عشرات السنين من القمع، والقهر، وكم الأفواه، والفساد الذي لا مثيل له في البلاد، أسئلة تبحث عن مبرر، ولا مبرر سوى الحقد الأعمى على جزء كبير من الشعب السوري الذي تجرأ أن ينتفض ضد الطائفية القاتلة التي نسج خيوطها في نسيج المجتمع السوري حافظ الأب وتبعه بشار الابن "ففرخ البط عوام" ليسلك طريق الإجرام ذاته ويفوق المجرم الأكبر ستبقى مجزرة حماة، ومجزرة سوريا الكبرى في الذاكرة الجمعية للسوريين ولن تمحيا منها إلى الأبد. ففي مسامعي لاتزال تطن صرخات السيدة الحموية: الله ينتقم منكم يا آل الأسد، وأراها تجفف دمعا منهملا كغدير.