أطفال بعمر البراعم زغب الحواصل لم يتفتحوا بعد على الدنيا قضوا قضقضة وبردا، وآخرون يرتعدون، ويرتجفون من شدة عاصفة ثلجية نسفت خيامهم المنتشرة على هضاب ووهاد خارج وداخل البلاد. لادرعا يقي، ولا سماء تتقي، ولا نارا تدفيء، ولا خيل، ولا مال، ولا ماء، ولا شجر...هكذا بات السوري مشردا تحت سقف من خيط بعد أن أفقدوه الحيط الذي طبع على بابه قبلة قبل اقتلاعه منه، ووضع مفتاحه بجيبه كالفلسطيني الذي هجر من دياره بالأمس عسى أن يعود ذات يوم. هذا السوري الذي شهد تاريخه أنه استقبل الشركسي، والأرمني، والتركماني، واليوناني، واليهودي، والفلسطيني، واللبناني، والعراقي، اليوم وقع عليه الحيف، يا حيف، من ابن جلدته لا من العدو.
مع بداية العاصفة نشرت صفحة فريق ملهم الذي قام بحملة " حتى آخر خيمة " لجمع تبرعات عبر بثّ مباشر للفريق داخل مخيم يقع على أطراف مدينة اعزاز، بهدف إزالة المخيمات بشكل كامل ونقل العائلات من الخيم التي تقيم فيها كمرحلة أولى إلى منازل أعدّت لاستقبالهم، حيث حظيت الحملة بتفاعل كبير من جانب السوريين داخل البلاد وخارجها وخاصة من الأخوة الفلسطينيين الذين تبرعوا بمبالغ سخية تعادل الجزء الأكبر من التبرعات، حتى أن النساء الفلسطينيات قد تبرعن بحليهن الذهبية لبناء منازل من حجر لا تأبه عاصفة، ينام اللاجئون تحت سقفها قريرين العين هانيها، فالفلسطيني لم ينس بالأمس استقبال السوري له في أحلك أيام تاريخه عندما اقتلعه الصهيوني من دياره، تسجيل مصور لـ "الخالة نديمة حسن عزو" البالغة من العمر 75 سنة دعت فيه وابتهلت إلى الله عندما تراكمت الثلوج على سقف خيمتها المتهلهلة، وسئمت تكاليف الحياة، أن يرأف بها ويجد لها من حيث لا تدري مخرجا وملجأ، ولم تكن الخالة نديمة قد أدرجت في برنامج الترحيل من المخيم لبيت لا تخفق الأرواح فيه، وترى فيه كما يرى كل لاجيء معذب قصرا منيفا بعد عذاب أليم. عندما سمع الفريق دعاءها وابتهالها عاد لنقل الحاجة نديمة بمفردها من خيمتها دون غيرها إلى منزلها الجديد، لكن الخالة نديمة رفضت أن تهجر جيرانها مطالبة أن يرحلوا معها أيضا فهي معهم في الهم والغم والبرد والجوع والتهجير والسراء والضراء واحد. وسردت الحاجة نديمة حكايتها مع أهالي المخيم، بأنها تعاني من تحسس رئوي ولا تقوى على تحمل البرد، فما كان من جميع أهالي المخيم إلا أن جمعوا لها ثمن مدفأة في هذا الشتاء لتدفأ عظامها المرتعدة، واعترافا منها بالجميل الذي لم تنسه رفضت كرم فريق ملهم دون أن يكرمهم كما أكرمها. وهكذا كان وبدأت عائلات المخيم بحزم أمتعة شحيحة وغادرت المخيم مع الخالة نديمة بعد طويل معاناة وصبر وقهر. الطريق مازالت طويلة لننزع الخيام، ونقتلع الطغاة الذين اقتلعوا السوريين من ديارهم بغير حق، ففي شمال سوريا وحدها 1489 مخيما يقيم فيها مليون و512 ألفاً، و784 نازحاً، وتتضمن 452 مخيماً عشوائياً يقيم فيها 233 ألفاً و871 نازحاً. لكن مع السوريين الشرفاء كفريق ملهم، وكالخالة نديمة وكل الكرماء المتبرعين من أموالهم والنساء من حليهن لابد وأن نصل لاقتلاع آخر خيمة، ونقف في وجه العواصف، وننهي أخر معاناة، بإنهاء آخر شبيح وطاغية، يا خالة نديمة.