كنا صغارا، وكنا فقراء، وكان القمل يجد مرتعا في رؤوسنا، لا نأكل حتى نشبع، وننام صفا على بساط، نلعب بأقمشة بالية جعلنا منها كرة، في قرية منسية على هضاب تنفث غبارا مع كل هبة ريح. لا نعرف من نعيم الحياة سوى أيام العيد المعدودات، نأكل نتفا من لحم الضأن، وحلوى الدبس أو العسل. نخاف اتساخ حذاء جديد، أو سروال نتباهى فيه أمام الأقران، وبضعة قطع من نقود في جيبنا نسارع لننقدها لصاحب الدمى المتحركة الذي يزورنا كل عيد. دمى تحكي قصص كاراكوز وعواظ، والشرطي والحرامي، وحكايات تضحكنا، ونثور جميعا تأييدا للشرطي الذي يمسك بالحرامي ويشبعه ضربا بعصاه. كانت الدمى تتحرك بخيوط من خلف ستار لا نراها، ونحسب أن الكلام يصدر عنها، فهمنا الحكاية عندما كبرنا وأصبحنا ننعت فلان من الناس بالكاراكوز لأنه لا يملك من شأنه شيئا، وهو شخص ضعيف، ويمثل أدوارا على أنه شخصية مهمة، وفي الواقع هو إمعة تحركه الخيوط من الأعلى.
كراكوز الأمس بهذه الصفات ينطبق اليوم على بشار الأسد الذي يعطي الانطباع بأنه سيد نفسه، وسيد سورية. لكن في واقع الأمر كالكاراكوز تحركه خيوط من الأعلى، والفارق الوحيد بينه وبين الكاراكوز، أن هذه الخيوط جلبها هو بنفسه وربط بها رأسه وأعضاءه وسلمها لأسياده: فلاديمير بوتين، وولاية الفقيه يحركانه كما يشاءان. فنراه يتحرك ويتكلم دون أن نرى الخيوط التي تحركه من الخارج. فالروس الذين جاءهم طلب بشار بأن يصبح كاراكوزا، لهم " كشحمة على فطيرة" كانوا يحلمون بها من زمان، فمياه سورية الدافئة تناسبهم تماما، اليوم يتدخلون في كل شاردة وواردة على الأرض السورية، يقصفون المدنيين في الشمال، ويجربون كل أسلحتهم في اللحم السوري، ويعقدون المصالحات في الجنوب، يمنحون الأوسمة، ويشكلون ميليشيات ترتكب المجازر في الشعب السوري. ويصل رئيسهم إلى قاعدته حميميم " لا حاضر ولا دستور" وكأن القاعدة على أراض روسية، بل ويطلب من بشار زيارته بمكالمة هاتفية..
ويأخذ الفرس دور قرض ما يمكن قرضه من الأراضي والعقارات السورية لتوطين ميليشياتهم ( الحرس الثوري، فاطميون، زينبيون، وأبو الفضل العباس..)، وكان قاسم سليماني قبل مقتله يصول ويجول في سورية، يسيطرعلى كل الميليشيات الطائفية العاملة في سورية، بما فيها مليشيا حزب الله، ويضع الخطط، ويحرك القوات، لقتل الشعب السوري المطالب بالحرية، دون العودة إلى القيادة السورية، وكأن سورية باتت أرضا مشاعا للروس والفرس.
ذات مرة عندما كان صاحب الدمى في قريتنا يحرك الكاراكوز، ونحن نتفرج فرحين، بتر خيط رأس كاراكوز وسقط إلى الأمام. ولم يع كاراكوز سورية أن رأسه سيقع لمجرد أن أحد أسياده يبتر الخيط الذي يحرك رأسه. لحظتها ربما سيعي أن الحامي الوحيد هو الشعب وليس من يحرك الخيوط من الخارج.