استباقاً لما يمكن أن يُقْدِم على فِعلٍهِ هواةُ الاصطياد بالماء العكر، أقول بالفم الملآن: أنا أرفض كلَّ فِكر شمولي، سواء كان قائماً على أسس دينية أو قومية أو عرقية أو علمانية، وأستهجن ادّعاء احتكار الحقيقية!
وفي المقابل، أحترم وأجِلّ الإخلاص للقضية التي يتبناها الإنسان، ويبذلَ كل ما يستطيع في خدمتها.
بدعمٍ من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وباكستان، تمكن "المجاهدون" من طرد القوات السوفييتية من أفغانستان. لكن هذا الانتصار، لم يشكل نقطة بدء العمل على تحقيق الأمن والاستقرار للمواطنين البسطاء، بل بدايةً لصراعٍ دموي على السلطة بين قادة الفصائل الجهادية.
في آب/أغسطس سنة 1994 ظهرت "حركة طالبان" معلنة الحرب على كافة القيادات الفاسدة وأمراء الحرب. ونتيجة حربٍ ضروسٍ مع هؤلاء، تمكنت "الحركة" من إحكام سيطرتها على كافة التراب الأفغاني، وأعلنت قيام "إمارة أفغانستان الإسلامية" في الـ27 من أيلول/سبتمبر 1996.
حَكَمتْ "طالبان" الأفغانيين بالحديد والنار، وفرضت رؤيتها المتشددة جداً للشريعة الإسلامية، واستمر الأمر على هذا النحو إلى أن قررت إدارة الرئيس الأمريكي - جورج بوش (الإبن) غزو أفغانستان في الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر 2001 على خلفية هجمات الـ11 من أيلول/سبتمبر 2001، التي شنها "تنظيم القاعدة" على أهداف في الولايات المتحدة، حيث اتهمت الإدارة الأمريكية حكومة "طابان" بإيواء ذلك التنظيم الإرهابي...
رغم شح الموارد، وضيق هامش التحرك والمناورة، واصلت "الحركة" "جهادها" ضد المحتلين وأذنابهم، إلى أن أرغمت الجميع، بما في ذلك الولايات المتحدة، على الجلوس معها إلى طاولة المفاوضات (رغم تصنيفهم إياها "تنظيماً إرهابياً") وصولاً إلى استعادة سيطرتها على بلادها.
وبالحديث عن الدرس الذي قدمته "حركة طالبان" للثوار السوريين، ينبغي الاعتراف بأن "الطلبة" الأفغان حافظوا على استقلال قرارهم، ورفضوا ربط قضيتهم بمصالح أي دولة؛ شقيقة كانت أم صديقة، وأفشلوا كل محاولة لتفريقهم إلى "منصات" متفاوتة قوة الإيمان بعدالة ما "يجاهدون" من أجله، وكانوا بالمرصاد لكل الألعاب السياسية الدولية، الرامية إلى تشتيت الجهود وتمييع الهدف، ورفضوا أن يكونوا "بندقية للإيجار" يستخدمها هذا الطرف أو ذاك لتحقيق أهدافٍ جيوسياسية.
ولكي لا نبخس الثوار السوريين حقهم، يجب الإقرار بأنهم أبلوا بلاء ممتازاً في البداية، رغم شح مواردهم. لكنهم لم يصمدوا أمام المغريات المادية، التي قدمتها بسخاءٍ أطرافٌ لا يمكن أن يكون لها مصلحةٌ في إقامة نظام ديموقراطي في سوريا، فأصبحوا صيداً لمختلف القوى الراغبة في إبقاء النظام الأسدي القمعي جاثماً على صدور السوريين. ونتيجة لذلك، ظهرت "منصات" "أستانا" و"سوتشي" و"جنيف" وغيرها، وظهرت الفصائل المسلحة المتناحرة، التي قُتِل من أبنائها في الصراعات البينية أضعاف أضعاف ما قتل في صراعها مع عدوها الأساسي المفترض.
ومما يدمي القلوب هو أن عملية التشتت لا تزال مستمرة، وآخر تجلياتها كان "المؤتمر الوطني لاستعادة القرار" الذي عقد مؤخراً في جنيف.