خلال أكثر من نصف قرن في مهنة المتاعب، لم تسعفني مهنة صاحبة الجلالة بتغطية خبر سعيد في عالم العرب الذي لم يعرف السعادة حتى في اليمن.
تمرست، وتمرغت في مآسي أنظمةالعرب،ونكباتهم،ونكساتم، وإفلاسهم،وجرائمهم،وفسادهم، وخياناتهم..
مرت بي الأيام فأودتني حرب اليمنين، وعشرية الجزائر السوداء، وحرب العراق في إيران، ثم حرب أمريكا في العراق، وليبيا، وقفت على تدمير العرب للعرب، رصدت خياناتهم شبه المستورة، ولقاءاتهم بضحكاتهم العريضة في الوجوه، وإخفاء عيونهم خلف نظارات شمسية، والمدى في أيديهم بالخلف، سمعت وعودا كثيرة خلبية كرعود تعد بالغيث، ولا غيث.
وحل الربيع العربي فتفاءلت بالخير بالخلاص من الأنظمة المستدامة فلم أجده، ملايين العرب غدرتهم أنظمتهم لأنهم تجرؤوا عليها وباتوا تحت التراب، مدن وقرى تناثرت كأنها ضربت بنووية هيروشيما، منيت النفس بأن أرى سورية الحبيبة، سورية الوطن، سورية الأم بثديها الكريم، محررة من رجس كابوس جثم فوق صدرها خمسة عقود ولا يزال وخاب ظني. رأسي أضحى مقبرة ذكريات حزينة، تضج دائما في مخيلتي، أتذكر طفلة عراقية في بغداد دعتني لمسح حذائي مقابل دنانير معدودات، أمسكت بكفها الصغير ونقدتها ما تيسر وقلت: عودي إلى أهلك سعيدة. أجابتني بدمعة سبقت كلامها: لا أهل لي. كم تمنيت أن يكون لي المقدرة أن أنقذها من تسولها، ولكن هيهات.
لا أنسى صبيا نائما على رصيف ترابي في الخرطوم، عاري القدمين، وضعت في جيبه ورقة نقدية ومشيت علها تجلب له سعادة ولو عابرة. تبقى في مخيلتي صورة أطفال في صنعاء يحملون بنادق كلاشنيكوف، وخناجر على الخصور، ويمضغون القات، في أحد الشوارع بائع خضار يبيع البطيخ وبنادق الكلاشنيكوف، ولا أتحدث عن جثث تناثرت آطرافها أمامي بمفخخة سبقتني إلى المكان، عويل في كل مطرح.. لا تسمع سوى العويل، هذا ما جنته الشعوب العربية من حكامها.
لا أنسى خبر مقتل عروبة بركات في التاسع والعشرين من شهر حزيران 2017 وأبنتها الحلوة حلا من أجل دراهم معدودات، ولا خبر وفاة المناضلة الكبيرة مي سكاف. صدمني الخبر وانضم إلى مقبرة الذكريات الحزينة، تبقى صورة إيلان على ساحل تركي ماثلة أمامي كلما تحدثت عن أطفال سورية، وكذا حمزة الخطيب، وعمران وسواهم.
عبرت جسرا في ليل القاهرة، وقفت على عائلة كاملة من أم وأولادها ينامون فوق الجسر، تأملت في الوجوه المغبرة، والأم تحتضن ابنتها خوفا عليها، وفي الطرف المقابل صورة كبيرة للرئيس بنظارتيه وضحكته العريضة، رسالة موجهة تقول: كل شيء بخير في بلاد النيل.
لا أنسى صورة محمد الدرة يحتضنه والده ليحميه من رصاص الصهاينة، قتل محمد ولم تهتز شعرة لدى الحكام الأشاوس.
أنى وليت وجهي شطر بلاد العرب أوطاني، من الشام لبغدان، ومن نجد إلى يمن، إلى مصر فتطوان، لا أرى سوى البؤس، والفقر، والقتل، والحرمان، والحزن الممزوج بدم كل عربي يدور معه بدورته الدموية لا فكاك، أودوا بنا أصحاب الضحكات الوديعة، في صورهم البريئة التي تملأ جدران المدن العربية إلى أسفل درك شعوب العالم. لو فتحت الحدود على الغرب لما بقي عربي واحد في بلده، ستخلو البلاد على عروشها، سيركبون الأمواج ولو كان لهم فيها قبور من ماء، سيمخرون الصحاري كالإبل ولو ماتوا عطشا واجهادا، سيركبون "عربيات الوقت ويهربون بالنسيان" وسيتركون الديار و"ضحكات أولادهم منسية على الحيطان"،
إذا سألت المعري لقال لك:
مل المقام فكم أعاشر أمة أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها فعدوا مصالحها وهم أجراؤها
إذا سألت المتنبي لقال لك:
إنما الناس بالملوك وما تفلح عرب ملوكها عجم
وإذا سألت مظفر النواب لقال:
يا أولاد.... لا أستثني أحدا منكم