عن القدس العربي
سنة مضت على السقوط المدوي «لصاحب الأبد» بشار الأسد، سنة مضت على أحداث كبرى غيرت مجرى تاريخ سوريا وأدخلتها في فضاء عالمي رحب، بعد أن كانت منبوذة متقوقعه في مجال لا يتعدى المجال الإقليمي المحدود. سنة مضت عادت سوريا للسوريين، ونفضت عن منكبيها غبار تعب سنين البؤس والقهر والحرمان والدم والإجرام حتى الإدمان، سنة مضت عادت شمس سوريا إلى مستقرها تسطع لتبهر العالم من جديد بحضارتها، وإرادتها وقوة شعبها الثائر الذي لم يستكن حتى أسقط الطاغوت الصغير، وريث الطاغوت الأكبر.
الثامن من ديسمبر 2024 كان بمثابة الفرج الأعظم بعد نصف قرن ونيف من نظام الطائفية والديكتاتورية والإجرام الذي حول سوريا إلى دولة فاشلة راعية للإرهاب والمخدرات والإبادة الجماعية، هذا اليوم كان الفاصل بين ظلمات الماضي ونور المستقبل.
لم يعد ممكنا العودة ولو خطوة للوراء، وكل من يفكر بزرع الفتنة ومواجهة النظام الجديد بالعنف بهدف التقسيم، أو تشكيل إدارة ذاتية، أو العودة إلى الحكم فهو واهم
لم يكن سهلا أن تحرر حلب ودمشق مرورا بالمدن الكبرى، فيوم السقوط الكبير، وهروب الطاغية الصغير اهتز عرش كل من كان يدعمه، ومادت الأرض تحت أقدامهم، فسوريا الجوهرة التي كانت مرتعا لهم، خسروها في ليلة فقدت قمرها، وانبلجت على صبح آخر، بزغت فيه شمس الحرية، ووضعت سوريا قيادة وشعبا أمام التحديات الكبرى التي تنتظرها، فهروب الطاغية إلى حاميه ترك خلفه سوريا مدمرة، مرتهنة للخارج، محتلة من خمسة جيوش أجنبية، اقتصادها في الحضيض، وعملتها تكاد لا تساوي شيئا مقابل الدولار. نصف الشعب السوري خارج سوريا، ونازحون بالملايين، وترك أذياله، وفلوله، ليتآمروا على النظام الجديد فأشعلوا فتنة في الساحل السوري، ليثيروا نعرة طائفية ويتهموا النظام الجديد بأنه يبيد الأقليات. مع إن الطائفة العلوية حكمت سوريا لنصف قرن ونيف، ورغم كل الجرائم التي ارتكبت بحق الأكثرية السنية (أكثر من مليون قتيل والمقابر الجماعية شاهدة على ذلك) لم يتعرض أحدهم لأي تهديد، أو لعمليات انتقام، لكن هناك من لا يزال يحلم بالعودة للحكم، فرئيس المخابرات السابق كمال حسن، وابن خال المخلوع رامي مخلوف يخططان. وتمردت فئة من الموحدين الدروز يتزعمها حكمت الهجري مطالبين بالانفصال عن الوطن الأم، بحماية من دولة الاحتلال المارقة، الذين رفعوا أعلامها في السويداء، وشكلوا ما سمي «الحرس الوطني»، الذي يضم مجموعات من فلول النظام الهاربين، وبعض الأفراد الموالين للهجري، (الذي يسعى لتغيير اسم جبل العرب الذي أطلقه قائد الثورة السورية الكبرى سلطان الأطرش ضد الاستعمار الفرنسي على جبل الدروز باسم «جبل باشان» وهو اسم توراتي قديم)، ليقوم باعتقالات عديدة وتهديدات، واقتحام منازل، وإهانات، وحلق شوارب، وترهيب وتعذيب وقتل كل درزي يعارض مشروع الهجري. وشهدت منطقة جبل العرب مواجهات كبيرة بين فئة من الدروز والسكان المنتمين للعشائر، أودت بحياة العشرات، وتوترا كبيرا في المنطقة، وأدى مشروع الهجري الانفصالي إلى مواجهات أخرى داخل الطائفة الدرزية نفسها بين مؤيدي الهجري ومعارضيه، بعد قتل اثنين من شيوخ العقل تحت التعذيب (رائد المتني وماهر فلحوط) في حملة «الأمن الاستباقي» الذي اتهم الموقوفين بالتواصل مع دمشق والتحضير لانقلاب عسكري، وتذكر هذه الجرائم المرتكبة بجرائم النظام البائد بحق السوريين. ومن المعروف أن الهجري كان من الموالين للنظام البائد والمدافعين عنه، لكن مع سقوطه تحولت بوصلته إلى دولة الاحتلال. وفي شمال شرق سوريا حيث قوات سوريا الديمقراطية الكردية «قسد» التي تحتل ربع مساحة سوريا، لا تزال المواجهات مستمرة مع قوات الأمن السورية، رغم الاتفاق الذي أبرم بين رئيس «قسد» والرئيس السوري أحمد الشرع، بضم قواته إلى الجيش السوري في 10 مارس الماضي، وعلى غرار الطائفة الدرزية المنقسمة بين مؤيد ومعارض للسلطة المركزية فإن الأكراد منقسمون أيضا على أنفسهم، إذ قام حزب الوسط الكردي وعضو المجلس الوطني الكردي برئاسة شلال كدو، بعقد مؤتمر الحزب في دمشق وقال: «إن التوجه إلى دمشق يأتي من منطلق أن بناء سوريا يجب أن ينطلق من العاصمة»، وأضاف: «نحن في ضيافة الحكومة السورية، والشام عاصمتنا، وسنعمل من دمشق»، والسؤال المطروح كيف لفئة لا تتجاوز نسبتها 2 في المئة من السكان أن تحتل 25 في المئة من الأراضي السورية الغنية بالنفط والموارد الزراعية الكبيرة، والمياه. (الأكراد يوجدون بكثرة في كل المدن السورية، خاصة في دمشق وحلب، وجبل الأكراد، وهم يعارضون بشكل عام مشروع قسد). محاولات التجزئة التي تقوم بها هذه الفئات وجدت فيها دولة الاحتلال فرصتها لتطرح نفسها حامية للأقليات، وتحقيق مشروعها التقسيمي، وتفتيت المجتمع السوري، واحتلال المزيد من الأراضي السورية، وألغت اتفاق فصل القوات 74، وقامت باحتلال عدة نقاط في الأراضي السورية المحاذية للجولان المحتل، وقامت بقصف الجيش السوري، ومبنى رئاسة الأركان السورية، والمربع الأمني الذي كان يضم كل أسرار الدولة. لكنها تلقت مؤخرا ضربة موجعة من مقاومة شرسة من سكان بيت جن بعد توغل لاعتقال شابين، وكل محاولات التوصل إلى اتفاق أمني جديد باءت بالفشل، وحذّر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إسرائيل من الاعتداء على سوريا مجددا، وطالب بإبرام اتفاق أمني، بين سوريا ودولة الاحتلال، لكن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يضع شروطه منها جعل المنطقة الواقعة بين دمشق والجولان منطقة منزوعة السلاح. والتحدي الأكبر الذي يواجه سوريا بعد سقوط النظام البائد هو إعادة إعمار سوريا (التي قدرت الأمم المتحدة بأن تكاليفها تتجاوز 220 مليار دولار)، ورفع العقوبات، وبناء اقتصاد سليم، ودعم العملة السورية، ورفع مستوى المعيشة للمواطن السوري الذي لم يكن يتجاوز دخله 20 دولارا شهريا في زمن العهد البائد، والقضاء التام على انتاج وتصدير المخدرات، وإعادة بناء دولة المؤسسات. وترميم علاقات سوريا بالخارج، وقد نجحت الجهود المبذولة في إعادة العلاقات الدبلوماسية مع عدد كبير من الدول، التي عادت لفتح سفاراتها في دمشق. كما تمت دعوة رئيس الدولة لأول مرة في تاريخ سوريا لإلقاء كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، كما تمت دعوته أيضا للقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض، في زيارة لا سابقة لها لرئيس سوري. في ظل هذه الأوضاع لم يعد ممكنا العودة ولو خطوة للوراء، وكل من يفكر بزرع الفتنة ومواجهة النظام الجديد بالعنف بهدف التقسيم، أو تشكيل إدارة ذاتية، أو العودة إلى الحكم فهو واهم، ومن ثوابت التاريخ أنه لا يعيد نفسه.
كاتب سوري