أزمة متعددة الأوجه ترجع فرنسا نحو الجمهورية الرابعة

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

(عن القدس العربي)

تميزت الجمهورية الرابعة في فرنسا (1946ـ1958) بالتقلبات السياسية الحادة حيث تم تشكيل أكثر من عشرين حكومة خلال هذه الفترة، ولم تستمر حكومة في الحكم أكثر من سبعة أشهر وسطيا، حتى أن حكومة هنري كوي لم تدم في العام 1950 سوى يومين، ما أشبه اليوم بالأمس، حيث تمر فرنسا تحت حكم الرئيس إيمانويل ماكرون بأزمة غير مسبوقة للجمهورية الخامسة التي أنشأها الجنرال شارل ديغول على أنقاض الجمهورية الرابعة في العام 1958 بدستور جديد حيث تحولت فرنسا إلى جمهورية رئاسية بدل جمهورية برلمانية، وانتخابات الرئيس يقررها الشعب لأول مرة في العام 1965. اليوم في ظل عدم الاستقرار السياسي وجد رؤساء الأحزاب أنفسهم في سباق محموم للوصول إلى الإليزيه وعلى رأسهم زعيم حزب فرنسا الأبية جان لوك ميلانشون (أقصى اليسار) وزعيم حزب النهضة غابريل آتال (يمين متطرف) وتبرز شخصية المستقل ورئيس الوزراء السابق دومنيك دوفيلبان كمنافس عنيد وله شعبية تتعاظم يوما بعد يوم (باقي الأحزاب بقيت ضعيفة كالحزب الاشتراكي الذي فقد الكثير من مصداقيته كالحزب الشيوعي وحزب التجمع من أجل الجمهورية الديغولي). فمنذ العام 2020 وبعد تنصيب رئيس الوزراء إدوارد فيليب (2017ـ 2020) تعاقب على رئاسة الوزراء كل من جان كاستكس لمدة عامين، تبعته إليزابيت بورن لمدة عامين، ثم غابريل أتال لم يكمل السنة، تبعه ميشيل بارنييه عدة أشهر، ثم جاء زعيم حزب الموديم فرانسوا بايرو تسعة أشهر، وفي سبتمبر 2025 تم تعيين سباستيان لوكورنو الذي قدم استقالته بعد أربعة أيام لكنه أعيد تعيينه مرة أخرى وهو حاليا يشغل هذا المنصب ضمن تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية كبيرة.

من عادات الفرنسيين الاحتجاج، فالشعب الفرنسي من طبيعته «محتج مزمن»، وهذه الاحتجاجات تنظمها المؤسسات (أحزاب سياسية معارضة، نقابات، جمعيات، مؤسسات المجتمع المدني) وفي أغلب الأحيان تنطلق مظاهرات احتجاجية تنتهي بعض الأحيان بمواجهات عنيفة مع قوات الأمن كما حصل مع «السترات الصفر»، والاحتجاجات تنطلق لأسباب مختلفة: (أزمة بطالة، زيادة في الرواتب، قوانين يشرعها البرلمان لا تصب في صالح المواطن كاحتجاجات زيادة سنوات سن التقاعد، أو المطالبة باتخاذ مواقف حكومية من أزمة سياسية تخص فرنسا، أو الاتحاد الأوروبي، أو أزمة اجتماعية داخلية كمنع الحجاب مثلا) ولكن هذه المرة هناك أزمة مركبة تنذر بعواقب وعواصف سياسية قلما مرت بها فرنسا، وهناك مواعيد معلنة بنوايا صريحة بإسقاط حكومة فرانسوا بايرو، بل وإسقاط رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون. حيث دعت النقابات الفرنسية إلى التظاهر في 18 أيلول/ سبتمبر احتجاجا على خطة بايرو بخفض الإنفاق العام. وهذه الأزمة المركبة التي يعود أحد عناصرها إلى عشرات السنين سابقا، وأخرى مستجدة ومتعددة الأوجه. حتى بات المواطن الفرنسي العادي يخشى على مكتسباته، وحتى مستقبل أطفاله. وأخطر أزمة تمر بها فرنسا اليوم هي المديونية العالية التي باتت تثقل كاهل الإنتاج القومي الخام، حيث بلغت قيمة الديون حتى اليوم مبلغا فلكيا يقدر بـ 3346 مليار يورو أي ما يعادل 114 بالمئة من الناتج القومي الخام. وقد بدأ هذا الدين في العام 1978 حيث كانت تشهد فرنسا أزمة بطالة حادة وصلت إلى أكثر من ثلاثة ملايين عاطل عن العمل، (نسبة البطالة حاليا تعادل 7 بالمئة) ومع بداية العام 1981 تخطى حجم الدين 100 مليار يورو، وفي العام 2003 وصل مبلغ الدين 1000 مليار، وفي العام 2024 تخطى 3000 مليار، وهناك من يخشى أن يستمر هذا الوضع ويتفاقم لغاية العام 2030 خاصة وأن فرنسا كغيرها من الدول الأوروبية تسعى لتخصيص ميزانية إضافية للدفاع الأوروبي بعد أن شعر الاتحاد الأوروبي بفقدان الثقة بالحماية الأمريكية بعد أن اتخذ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مواقف لم ترق للاتحاد فيما يخص الحرب في أوكرانيا، ولم تستطع أي حكومة أن تحد من تضخم حجم الدين، واليوم يقف رئيس الوزراء فرانسوا بايرو عاجزا عن طرح حلول قابلة للتحقيق للحد من الاستدانة.

تمر فرنسا تحت حكم الرئيس إيمانويل ماكرون بأزمة غير مسبوقة للجمهورية الخامسة التي أنشأها الجنرال شارل ديغول على أنقاض الجمهورية الرابعة في العام 1958

من ناحية أخرى فإن الحرب على غزة أجلت حقيقة فاقعة تؤكد أن هناك حوالي 4185 فرنسيا (يهودي مزدوج الجنسية) قد التحقوا بجيش الاحتلال ويحاربون في غزة، (اليهود الفرنسيون الذين هاجروا إلى إسرائيل يخدمون 3 سنوات في الجيش مع الاحتفاظ بجنسيتهم الفرنسية، كما يحق لليهود الذين لا يحملون الجنسية الإسرائيلية التطوع في خدمة الجيش الإسرائيلي، وهناك منظمات يهودية كمنظمة مورشيت التي تنشط في باريس تقوم تحت غطاء تنظيم مخيمات عمل في إسرائيل لكن المتطوعين يوجهون نحو تدريبات عسكرية والانغماس في الجيش) في وقت تتغير فيه نظرة الفرنسيين إلى إسرائيل، وتعم المظاهرات المدن الفرنسية المطالبة بوقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات إلى غزة، وتطالب لجنة التضامن الفرنسية الفلسطينية، بمحاكمة الجنود الفرنسيين الذين يقاتلون في غزة، وكذلك المستوطنين الذين يحملون الجنسية الفرنسية الذين يقومون باعتداءات على الفلسطينيين في الضفة الغربية، وانتقاد المعارضة الشرس للحكومة التي تتهمها بموقف مخز إزاء الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة الاحتلال، وتزويد إسرائيل بالأسلحة، ويترأس المعارضة اليسارية جان لوك ميلانشون الفائز في الانتخابات التشريعية السابقة (الرئاسة الفرنسية رفضت تعيينه كرئيس وزراء) وتبرز شخصية رئيس الوزراء السابق دومنيك دوفيلبان كمدافع لا يكل ولا يمل عن القضية الفلسطينية ومعارضة احتلال غزة، وتصعد شعبيته بشكل كبير في فرنسا (وهناك من يرشحه ليكون رئيس فرنسا المقبل) وكانت فرنسا في بداية الحرب على غزة قد اتخذت موقفا يتماهى إلى حد كبير مع الموقف الإسرائيلي، لكن هذا الموقف بدأ يتبدل تدريجيا بعد أن بدأ جيش الاحتلال يرتكب مجازر بحق الغزيين ويستخدم التجويع كسلاح حرب، وإعلان الوزراء المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية بنيتهم تهجير الفلسطينيين واحتلال غزة بدعم من دونالد ترامب أيضا الذي صرح بأنه سيحول غزة إلى ريفييرا الشرق الأوسط، وصفق له نتنياهو كثيرا وأيد فكرته، وازداد التوتر بين إسرائيل وفرنسا بعد عدة مواقف للحكومة الفرنسية التي لم تعجب إسرائيل وازداد الطين بلة بعد إعلان الرئيس إيمانويل ماكرون بقرار فرنسا الاعتراف بدولة فلسطين على منبر الأمم المتحدة، ما أدى إلى انتقاد حاد من قبل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزراء آخرين لماكرون، وانضمت المنظمات اليهودية في فرنسا، وعلى رأسها المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا (كريف) إلى جوقة الانتقادات، (هذه المنظمات اليهودية في فرنسا هي منظمات دينية كالمنظمات الإسلامية ونشاطها ينحصر في الشؤون الدينية ويمنع عليها التدخل في السياسة أو القيام بنشاطات سياسية). هذا الوضع المتفجر في فرنسا أضيف إليه الجدل الواسع واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي حيث تناولت الشائعات التي طالت زوجته بريجيت ماكرون حول مزاعم ولادتها ذكرًا، وكان الادعاءات قد بدأت في فرنسا قبل تنتشر في الولايات المتحدة عندما قامت الإعلامية اليمينية «كانديس أوينز» بنشر معلومات عن زوجة ماكرون بأنها ذكر وذكرت بعض الأدلة، وانتشرت هذه الادعاءات كالنار في الهشيم في جميع أنحاء العالم، وتفاقمت مع مشهد قيل إنه صفعة من بريجيت ماكرون لزوجها على متن طائرة كانت تقلهم إلى فيتنام عندما فتح باب الطائرة وظهرت وهي تمد يدها إلى وجه زوجها. كل هذه الأمور مجتمعة جعلت المواطن الفرنسي العادي الذي ضعفت قوة الشراء لديه مع ارتفاع الأسعار أن يعبر عن غضبه ويطالب بإلحاح إصلاحا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا في أقرب وقت.

كاتب سوري