هل تغيرت خريطة النفوذ في الشرق الأوسط؟

لقاء الرئيس احمد الشرع بالرئيس الامريكي دونالد ترامب وولي العهد السعودي محمد بن سلمان
لقاء الرئيس احمد الشرع بالرئيس الامريكي دونالد ترامب وولي العهد السعودي محمد بن سلمان

(عن القدس العربي)
منذ اتفاقية سايكس بيكو المشؤومة ونشأة دول عربية رسمتها هذه الاتفاقية بالقلم والمسطرة فإن هذه الدول المصطنعة أصبحت تدافع عن حدود سايكس بيكو أكثر من المذكورين
منذ اتفاقية سايكس – بيكو المشؤومة ونشأة دول عربية رسمتها هذه الاتفاقية بالقلم والمسطرة فإن هذه الدول المصطنعة أصبحت تدافع عن حدود سايكس بيكو أكثر من المذكورين وترسم سياساتها حسب المحاور والتحالفات، وكانت العراق ومصر والسعودية المحركة الرئيسية لهذه التحالفات التي كانت تتبدل حسب تبدل الحكومات، أو الانقلابات العسكرية التي كانت تعصف بسوريا والعراق بشكل مستمر، فكانت سوريا تارة تمد يدا للعراق ثم يأتي انقلاب آخر فتمد يدا للسعودية، ثم لمصر في وحدة اندماجية وهكذا، ومع تمدد الاتحاد السوفييتي لعبت كل من إيران وتركيا بدعم أمريكي دور الجدار المانع لانتشار أنظمة شيوعية على غرار ما حصل في أوروبا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية، إذ كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعتمد على الجدار الإسلامي المعادي للشيوعية «الملحدة»، وكانت بريطانيا تحتضن كل الحركات الإسلامية وتدعمها.
مع الانقلابات العسكرية ضد الملكيات وإسقاطها (العراق، اليمن، ليبيا)، وظهور أحزاب شيوعية قوية في (السودان والعراق واليمن الجنوبي) بدأت التحالفات تأخذ شكلا آخر، إذ أصبحت تحالف جمهوريات، في مواجهة تحالف ملكيات (بشكل عام)، وكانت وجهة معظم الجمهوريات تتجه نحو الاتحاد السوفييتي (مصر، سوريا، العراق، ليبيا، اليمن، الجزائر) بشكل أساسي، ومنها انطلقت حركة عدم الانحياز (رغم انحيازها لموسكو)، وكانت هذه التحالفات سريعة التشكل، وسريعة الانحلال أيضا، بل العداوة والمواجهات في بعض الأحيان كما حصل بين سوريا والعراق في عهد حافظ الأسد الذي كان حليفا لإيران ضد العراق، أو ليبيا ضد مصر في عهدي السادات والقذافي، أو مصر ضد السودان بسبب مثلث حلايب.. (على سبيل المثال لا الحصر)، لكن منذ العام الذي غزا فيه العراق الكويت في بداية التسعينيات بدأ عهد آخر من التحالفات التي تحولت إلى محاور. فالولايات المتحدة التي كانت تخطط منذ نهاية الحرب العراقية الإيرانية في العام 1988 التي استنفدت أهدافها التي وضعت من أجلها (إنهاك القوتين عسكريا وماليا) لاحتلال العراق، اعتمدت على شيعة العراق بشكل أساسي (والأكراد بدرجة أقل) لإسقاط نظام صدام حسين، وهذا ما حصل بعد إنهاكه اقتصاديا بسبب العقوبات، وإضعاف قوته العسكرية، إذ قامت في التاسع من نيسان 2003 باحتلال العراق وإلقاء القبض على صدام حسين ومعظم قادة حزب البعث. هذا السقوط المدوي لنظام صدام فتح عهدا جديدا من التحالفات التي استفادت منه إيران بشكل أساسي لبناء ما سمي بالهلال الشيعي الذي كان أمنية صعبة التحقيق (أو المحور الشيعي الذي كانت تحذر منه أكثر من دولة عربية وخاصة الأردن)، وكان هذا خطأ أساسيا ارتكبته واشنطن الذي سمح لإيران للوصول إلى البحر المتوسط، (المحور الذي تشكل من طهران، مرورا ببغداد التي أصبحت تحت حكم شيعة العراق، ودمشق ذات الحكم العلوي القريب من الشيعة المتحالفة سلفا مع إيران، وبيروت المسيطر عليها من قبل حزب الله الشيعي المدعوم من طهران)، كما سنحت الفرصة لروسيا ببناء قواعد عسكرية وتوسيع قاعدتها البحرية في سوريا بعد اندلاع الثورة السورية واستنجاد نظام الأسد بها.
نتيجة تشكل هذا المحور الذي ضم اليمن بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء شعرت الولايات المتحدة، وإسرائيل، ودول الخليج العربي بشكل عام بالخطر الفارسي الداهم خاصة بعد بناء المشروع النووي والصاروخي الباليستي الإيراني الذي اعتبرته هذه الدول مهددا لأمنها القومي، وتعاظم الأمر بعد واقعة السابع من تشرين الأول حيث أطلقت طهران شعار وحدة الساحات (وهذه الساحات هي ميليشيات شيعة العراق، حزب الله في لبنان، وسوريا من حيث المبدأ، والمقاومة الفلسطينية، وأنصار الله الحوثيون)، وهي بالواقع دول المحور الشيعي بالإضافة لحركة حماس. هذا المحور جعل من سوريا القاعدة الوسطى، أو حلقة الوصل بين إيران وحزب الله لتمرير كل ما يلزم من عتاد وسلاح، أضف إلى ذلك أن استنجاد نظام الأسد بإيران قبل أن يستنجد بموسكو أيضا، جعل إيران ترتع وتمرح وتشيع وتبني قواعد عسكرية لميليشياتها الطائفية العديدة، وتستثمر في العقارات والأراضي السورية وهذا ما كان يفسر الهجمات الإسرائيلية المتكررة على قواعد إيران العسكرية وحزب الله في سوريا. وكانت هذه الهجمات تحرج النظام السوري الذي لم يكن يقدم تبريرا مقنعا لعدم قيامه بالرد عليها، حتى أن بعض الأوساط الإيرانية اتهمت المخابرات السورية بتزويد دولة الاحتلال بمعلومات عن أماكن تواجد القادة الإيرانيين وتحركاتهم. وازدادت مخاوف واشنطن ودولة الاحتلال من برنامج إيران النووي والصاروخي الباليستي. وتيقنت واشنطن أن شيعة العراق الذين تحالفوا معها لإسقاط نظام صدام حسين انقلبوا ضدها وتحالفوا مع إيران التي أصبح نفوذها في العراق يتعاظم. فكان لابد من كسر هذا المحور (رغم أن إيران وتركيا وروسيا كانت الدول الضامنة في سوريا وكانت مؤتمرات سوتشي وأستانة تنعقد باستمرار لبحث الملف السوري، دون نتائج تذكر)، والدولة المركزية التي يمكن أن تعطل هذا المحور، وتقطع طريق طهران ـ لبنان هي سوريا.
تيقنت أمريكا مرة أخرى أنه لا بد من إنشاء محور آخر يضمن من ناحية المصالح الأمريكية في المنطقة، ويمهد الطريق لانضمام دول جديدة لاتفاقيات إبراهيم، ولم يكن هناك أفضل من حليفتها تركيا للقيام بدور فعال في المنطقة، وهي أي تركيا كانت تخطط مسبقا للقيام بهذا الدور لتضرب عشرة عصافير بحجر واحدة: منع أكراد سوريا من إقامة أي كيان منفصل، الحضور المميز في سوريا يفتح لها باب إعادة الإعمار، والتوافق الاستراتيجي في أكثر من مجال عسكري واقتصادي، قطع الطريق على منافستها التقليدية إيران، الانفتاح بطريق سالكة إلى دول الخليج وخاصة السعودية، المساهمة في التحالف الدولي للقضاء على «داعش»، العمل على عودة ملايين اللاجئين السوريين إلى وطنهم. ينضم بطبيعة الحال إلى هذا المحور الأردن وهي المحطة الثالثة في المحور وبدورها لها مكاسب لتكون ضمن هذا المحور مع عصافير أقل بضربة حجر واحدة. فهي تفتح حدودها على سوريا كرئة شمالية تنمي العلاقات بين البلدين على أكثر من صعيد بعد أن كانت بتوتر مستمر خلال حكم البائد بشار الفار، تتخلص من تهريب الكبتاغون والمواجهات مع المهربين الذي قضوا مضاجع حرس الحدود، والتمكن من عودة أكثر من مليون لاجئ سوري على أراضيها. وتأتي الرياض كمحطة رابعة في هذا المحور وهي التي كانت صلة وصل مع واشنطن لرفع العقوبات عن سوريا والقبول بالوضع الجديد بعد إسقاط النظام البائد (وهذا ما يفسر وساطة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في ترتيب اللقاء بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس السوري أحمد الشرع).
وقد قامت السعودية بجهود كبيرة في هذا المجال، وكان التخلص من النظام السوري فرصة ذهبية لعودة العلاقات السعودية السورية إلى طبيعتها بعد أكثر من نصف قرن من الجفاء والحذر من نظام كان حليفا لطهران ويتهم باغتيال ابنها البار رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري. في الأول من شهر كانون الأول وبدون سابق إنذار، أو حتى إرهاصات تشي بشيء مكنون، قامت هيئة تحرير الشام والفصائل الموالية لها بتحرير مدينة حلب، وبقي حبل تحرير المدن السورية على الجرار كقطار الشرق السريع، وسقطت دمشق في الثامن منه، وكان يوم النصر للشعب السوري، ويوم الفرار لطاغية دمشق، فكان عهد وانتهى، وجلت كل قوات إيران وميليشياتها وكذلك حزب الله، فسقط محور طهران بيروت مرورا ببغداد ودمشق، بعودة سوريا من جديد لتأخذ مكانها في المحور الجديد: أنقرة ـ دمشق ـ عمان ـ الرياض.
* كاتب سوري