تحولات الملف السوري من أوباما لترامب

الرئيس الامريكي دونالد ترامب
الرئيس الامريكي دونالد ترامب


انطلاق الثورة السورية في آذار 2011 كان لها أكبر الأثر في التحولات الكبرى التي شهدتها سوريا على مستويات متعددة.
النظام البائد الذي كان مطمئنا برسوخ حكمه لها، كونه أنشأ 14 جهازا استخباراتيا يعدون أنفاس كل مواطن سوري عدا، وأرهب الناس بمجازر ومعتقلات لم تشهد حتى العصور الوسطى لها مثيلا، وإطلاق شعاره بثقة وثبات: «الأسد إلى الأبد»، لكن الأبد الأسدي كان وهما، فبعد نصف قرن ونيف من حكم سوريا بالحديد والنار، سقطت ورقة التوت عن عورته وهوى واندثر. فما عاشته سوريا خلال هذه الفترة ستدخل كفترة سوداء قاتمة السواد في تاريخ سوريا، لكن الفترة منذ بداية الثورة ولغاية يوم النصر في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024 تعتبر أكثر قتامة، وإجراما، وإيلاما، وتشريدا، وتجويعا. وخلال هذه الفترة التي تعاقب عليها ثلاثة رؤساء للولايات المتحدة اتخذ كل واحد منهم مسارا يختلف عن الآخر ولو أن الثلاثة لم يغيروا في الواقع السوري بشيء يذكر.
في 31آب/ أغسطس فاجأ نظام الأسد العالم أجمع باستخدامه الأسلحة الكيماوية في الغوطة الشرقية في مجزرة مروعة راح ضحيتها أكثر من 1500 شخص جلهم من الأطفال، وقد أثارت موجة سخط عالمية، وتهديدا من الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأن استخدام الأسلحة الكيميائية خط أحمر وكانت تستدعي تدخلا عسكريا. ورغم محاولة النظام إنكارها وإلصاق التهمة بالمعارضة المسلحة (صرحت مستشارة المخلوع ـ التي كانت أولى الهاربين بعد سقوطه ـ بأن المعارضة خطفت 500 طفل من جبال العلويين وساقتهم إلى الغوطة ورمتهم بالسلاح الكيماوي) إلا أن الدلائل لم تكن تخطئها عين بصيرة للتأكيد على مسؤولية النظام الأسدي. لكن تهديدات أوباما كانت كلام ليل سرعان ما محاه النهار. وذريعته في ذلك هو أن سياسته لا ترغب توريط أمريكا في الشرق الأوسط بعد فضيحة حرب العراق التي تسبب فيها سلفه جورج بوش الابن. لكن في واقع الأمر كان اهتمامه منصبا على توقيع اتفاق نووي مع إيران ولا يريد أن يغضبها بضربة عسكرية على حليفها الأسدي الذي طلب من إيران جلب كل الميليشيات الطائفية لحماية نظامه، بمن فيها فيلق القدس من الحرس الثوري، وحزب الله اللبناني اللذان كانا يعلنان أن مقاومتهما هي لتحرير القدس، وتبين أنهما تاها الطريق فوجدا أنها تمر من دمشق قبل القدس. (وهذا الخطأ القاتل الذي ارتكبه حزب الله في المشاركة في مقتلة الشعب السوري، وأودى به في نهاية الأمر إلى ما نراه اليوم). وقد نجح أوباما في توقيع الاتفاق مع إيران في العام 2015، وأخفق استراتيجيا في ردع النظام السوري ومعاقبته، وإفساح المجال أمام روسيا لتكون الفاعل الأهم في المعضلة السورية، من ناحية أخرى تردد أوباما في اختيار الطرف الصحيح على الأرض لدعم الثورة السورية، ففي البداية قامت الإدارة الأمريكية بدعم الجيش السوري الحر بخطة لتدريب وتجهيز 15 ألفا من عناصره، لكنه ألغي أيضا في العام 2015 لصالح دعم قوات سوريا الديمقراطية «قسد» بحجة مواجهة «داعش» التي انتشرت سريعا واحتلت مساحات واسعة في العراق والشام. وهذا ما أدى إلى ضربة كبيرة لوحدة الأراضي السورية بعد أن قامت قسد ببسط سيطرتها على ربع مساحة سوريا تقريبا شرق الفرات الغنية بالنفط والغاز والمياه، وتسببت بمواجهات مسلحة مع قوات المعارضة السورية المدعومة من تركيا التي لا ترغب في قيام دولة كردية على حدودها، ولا تزال القوات الأمريكية إلى اليوم متمركزة في سوريا في 17 قاعدة عسكرية، ويخطط الرئيس الحالي دونالد ترامب بسحبها بعد الاتفاق المعلن بين قسد والحكومة السورية في دمشق.
الإدارة السورية الجديدة بانتظار قرار ترامب برفع العقوبات المفروضة على النظام المخلوع التي ليس للإدارة الجديدة فيها ناقة أو جمل لكنه لايزال يماطل
لم يكن ملفّ سوريا من اهتمامات دونالد ترامب في نسخته الأولى في البيت الأبيض، وبدا أنّ أولوياته في السياسة الخارجية لا تأخذ بعين الاعتبار أهميّة التحوّلات السورية وتداعياتها على التوازنات الدولية. بل عبّر عن ضيق من المسألة السورية برمّتها، وتبرّم من وجود قوات أمريكية هناك، وكان على وشك سحبها في العام 2018. ولم يكن بأفضل من أوباما بالتزام أمريكا بخطوطها الحمراء فيما يخص استخدام الأسلحة الكيميائية في مقتلة الشعب السوري، ففي صباح يوم الثلاثاء في 4 نيسان/أبريل، قام النظام الأسدي بارتكاب ثاني أكبر مجزرة بالسلاح الكيماوي (غاز السارين) في مدينة خان شيخون بقصف بطائرات سوخوي 22 بأربعة صواريخ محملة بالغاز القاتل فسقط ما لا يقل عن 91 شخصا، وإصابة أكثر من 520 آخرين جلهم من الأطفال والنساء فاجأهم الغاز السام وهم نيام. وأكدت لجنة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة مسؤولية النظام عنها. عندما تلقى ترامب النبأ لم يجد في جعبته سوى تشبيه الأسد بـ«الحيوان»، وفي جعبة أمريكا سوى رد فعل – لحفظ ماء الوجه ـ بقصف مطار الشعيرات الذي انطلقت منه الطائرات المغيرة والذي لم تتضرر منه سوى بعض الطيور المتواجدة حول أحد المدارج. فترامب لم يكن يرغب بفتح جبهة جديدة في سوريا من ناحية، وإغضاب صديقه فلاديمير بوتين حليف الأسد الأول الذي مد إليه يد العون في مقتلة السوريين. ولم يمكن لترامب التهرب من الجرائم الأسدية الفاقعة التي فجرها «قيصر» (وهو الاسم المستعار للمصور فريد المذهان الذي سرب أكثر من 50 ألف صورة لجثث ضحايا قتلوا تحت التعذيب) هذه الصور دفعت مجلس الشيوخ ومجلس النواب الأمريكي للموافقة على قانون «قيصر» في 17 كانون الأول/ديسمبر 2019 الذي بموجبه تطبق أمريكا عقوبات على النظام السوري وحلفائه الاقتصاديين والعسكريين، واضطر ترامب للتوقيع عليه، والذي لا يزال ساريا حتى اليوم. لكن بالمقابل قدم الهدية الثمينة لدولة الاحتلال باعتراف أمريكا لسيادتها على الجولان السوري وكأن الجولان ملك لأمريكا تماما كما يدعو اليوم لاحتلال غزة وتحويلها إلى ريفيرا كأي مشروع عقاري.
ما بين النسخة الترامبية الأولى، والنسخة الترامبية الثانية مرت مرحلة جو بايدن كمرحلة باهتة فيما يخص الملف السوري بل أبدى بايدن بعض التسهيلات للنظام الأسدي، وبغض الطرف عن بعض الانتهاكات التي ارتكبتها بعض الدول العربية التي كانت تسعى للتطبيع مع نظام الأسد وتعويمه، وإعادته إلى حضن الجامعة العربية، متغاضيا عقوبات «قيصر»، وعقوبات (كبتاغون1 وكبتاغون2 وهي عقوبات ضد النظام السوري الذي كان أكبر مصدر لصنع وتصدير مخدرات الكبتاغون) مع عودة ترامب إلى البيت البيضاوي وجد أن سلفه بايدن قد ترك له أربعة ملفات ساخنة: (سقوط نظام الأسد، وفرار «الحيوان» إلى موسكو، وحرب أوكرانيا، وحرب غزة، ومواجهة الصين). ترامب يحافظ على عدم اكتراثه بالملف السوري إذ صرح على الفور:» لا ينبغي للولايات المتحدة أن تكون لها أيّ علاقة بما يحدث، هذه ليست معركتنا، لندع الأمور تجري، دون أن نتدخّل».
وفي واقع الأمر فإن سقوط النظام المخلوع سهل عليه المواجهة مع إيران بعد خسارة مواقعها في سوريا، وهزيمة حزب الله، وفي تغير لافت بدأ بسحب نصف القوات الأمريكية وتفكيك بعض القواعد العسكرية، ودفع قوات سوريا الديمقراطية لإبرام اتفاق مع إدارة دمشق الجديدة، والاتفاق مع صديقه رجب طيب أردوغان، الذي دعم الإدارة الجديدة في سعيها لإسقاط الأسد، بأن يدع له الشأن السوري، واليوم الإدارة السورية الجديدة بانتظار قرار ترامب برفع العقوبات المفروضة على النظام المخلوع التي ليس للإدارة الجديدة فيها ناقة أو جمل لكنه لايزال يماطل، ولا يرى في الاعتداءات التي تقوم بها دولة الاحتلال على سوريا أية غضاضة بل يلتزم الصمت كما يلتزمه في مقتلة الشعب الفلسطيني في غزة.
كاتب سوري