تنقل مهدي دخل الله خلال العقود الثلاثة الماضية بين عدد من المواقع الرسمية في خدمة النظام السوري. وهو حالياً عضو القيادة المركزية لحزب البعث، وشغل بين 2004 و2006 منصب وزير الإعلام، كما شغل لبعض الوقت منصب السفير السوري إلى المملكة العربية السعودية.
المعروف عن الرجل أنّه كان ولا يزال من أشد مؤيدي "الانفتاح على الغرب" الاقتصادي والسياسي، وهو ما عبّر عنه بشكل شديد الوضوح خلال ترؤسه لتحرير صحيفة البعث الحكومية، وأيضاً عبر دفاعه عن عبد الله الدردري وعن مخططات الخصخصة والعلاقة مع صندوق النقد الدولي والشراكة الأوروبية. نورد هذه المقدمة السريعة لنبين للقارئ الكريم طبيعة الموقع الذي يشغله الرجل، وبالتالي مدى أهمية الكلام الذي يقوله وعمن يعبّر.
إذا عدنا بالذاكرة إلى عام 2005، فإنه لم يكن في سوريا، وفي حزب البعث تحديداً، إلا قلة ممن يجرؤون على التعبير بوضوح عن مناصرتهم للخصخصة أو العلاقة مع الغرب أو حتى "ضرورة تجاوز الاشتراكية"... ولكن دخل الله كان من بين هذه القلة، وبل كان أحد صقورها إلى جانب الدردري وبعض الأسماء الأخرى التي كانت بطانة مسيرة بشار الأسد في "الإصلاح والتحديث"، والذين أثبت الواقع أنّ آراءهم (التي بدت دائماً صادمة ومفاجئة بالنسبة للطروحات التقليدية الموجودة على الساحة)، هي تعبير عن "رأي القيادة الحكيمة"، وهي استشراف لما سيجري فعلاً على أرض الواقع...
بوضوح أكبر، فأمثال دخل الله كانت وظيفتهم دائماً هي أن يلقوا بـ "القنابل الفكرية" التمهيدية التي تسعى "القيادة الحكيمة" إلى تحويلها لواقع بعد وقت غير طويل، وهو أمر يفيد في التمهيد واختبار الأجواء من جهة، وفي كسر حدة الموضوع وغرابته عبر تمريره في قنوات النقاش العام، ومن جهة ثالثة ينفع هذا أيضاً بتمرير رسائل بشار الأسد، بعناوين واضحة دون أن يتحمل مسؤوليتها، فليس لدخل الله أي صفة رسمية هذه الأيام ضمن النظام السوري، ولذا يمكن التنصل من المسؤولية عن كلامه...
لتحقيق هذه المواصفات فإن مهدي دخل الله بات قليل الظهور إعلامياً، وحين يظهر فلكي يرسل إحدى تلك الرسائل. فعبر السنة الماضية مثلاً، يمر معنا عدد غير كبير من مرات الظهور، لكن بينها ظهوران أحدث كل منهما ضجة وصخباً. الأول هو في أيلول 2020 حين تحدث على قناة الإخبارية السورية عن "السلام مع إسرائيل" بشكل غير مسبوق نهائياً في الإعلام الرسمي، بل وحين حاولت المذيعة المصدومة بغرابة الطرح بالنسبة لما اعتادته أن تتدارك الموقف بالقول إنّ أمراً كهذا لا يزال بعيداً جداً، فإنّ دخل الله يرد مباشرة: "لا هو أمر قريب جداً وسترين"!
الظهور الثاني الذي أحدث أيضاً بعض الضجة جرى يوم أمس، ويندرج في إطار الرسائل المحددة العناوين أكثر منه في إطار (كسر التابو)، لأنّ رسائل تتعلق بإسرائيل وسلام معها هو كسر للتابو بالنسبة للعقل السوري...
في ظهوره الأخير أثار دخل الله جدلاً بل وغضباً بتصريحاته التي تحدث فيها عن أن "الشعب السوري جائع ولكنه صامد"، وعن أنّ "الاستحقاق الدستوري سيتم في موعده" أي تمثيلية انتخابات بشار الأسد... ولكنّ هذه التعبيرات الصادمة التي جمعت الجوع والصمود وانتخابات الأسد هي القنبلة الدخانية التي يتم تحت ستارها تمرير الرسالتين الأكثر أهمية ضمن ظهور دخل الله الأخير، وهما:
الرسالة الأولى: قوله "الوجود العسكري الروسي في سوريا كان بقرار سيادي سوري وخروج القوات الروسية يكون كذلك بقرار سيادي سوري" وذلك بعد حديث مضحك عن أنّ شرط الأسد للقبول بدخول القوات الروسية والإيرانية إلى سوريا كان "عدم التدخل في الشؤون السيادية"... ويتناسى دخل الله الفضيحة التي نشرها موقع "روسيا اليوم" قبل فترة عن رسالة التذلل التي أرسلها بشار الأسد إلى بوتين عام 2013 ليطلب منه التدخل العسكري، والآن فجأة أصبح بشار الأسد يضع شروطاً!
الرسالة الثانية: لدى الحديث عن احتمال عودة النظام إلى جامعة الدول العربية، قلل دخل الله من أهمية ذلك، مع الإشارة إلى أنّ الموقف الإماراتي والسعودي بات مرحباً بتلك العودة، ولكن الأهم هي الإشارة التي قالها دخل الله عن هذين الموقفين وهي قوله: "الموقفان السعودي والإماراتي غير مستقلين"... والمقصود طبعاً هو أن موقف هاتين الدولتين لا يتم دون رضى وموافقة أمريكية، وبكلام آخر فإنّ الرسالة الضمنية هي أنّ التنسيق الذي تقوم به دول خليجية مع النظام السوري هو تنسيق يتم برضى أمريكي...
الرسالتان السابقتان تصبان على ما يبدو في عناوين متقاطعة: فهما استكمال لرسالة خالد العبود الشهيرة التي هدد فيها بقتل الجنود الروس في سوريا في حال حاولت روسيا أن تفرض شيئاً على الأسد. والآن فإنّ دخل الله يرفع مستوى الحديث عن استعداد النظام السوري للتطبيع مع الغرب ككل بما في ذلك إسرائيل، واستعداده أن ينقلب بشكل كامل على الروس، وعلى الإيرانيين طبعاً، في حال أمّن الغرب له بقاءه... بالمقابل فإنّ الأمريكان ومن قبلهم البريطانيون، قد بدأوا بإرسال رسائل الاستعداد بقبول بقاء الأسد منذ عدة سنوات حين نقلوا خطابهم من الحديث عن رحيل الأسد إلى الحديث عن "تغيير سلوك النظام" الذي بات بقاؤه مرادفاً لبقاء الحرب...