يشكل قرار بريطانيا رفع العقوبات عن 24 كيانًا سوريًا، من بينها البنك المركزي وعدة مصارف وشركات نفط، خطوة اقتصادية مهمة لها أبعاد سياسية واستراتيجية على سوريا. هذا القرار يأتي بعد التغيرات السياسية الكبرى التي شهدتها البلاد، حيث سقط نظام الرئيس السابق بشار الأسد في ديسمبر بعد أكثر من 13 عامًا من الحرب الأهلية. ورغم أن العقوبات لا تزال قائمة على الشخصيات المتورطة في تجارة المخدرات غير المشروعة، إلا أن رفع العقوبات الاقتصادية عن بعض المؤسسات الرئيسية قد يساهم في تحسين الوضع الاقتصادي السوري.
التأثيرات الاقتصادية لرفع العقوبات الجزئي
1. تخفيف أزمة السيولة وتحفيز القطاع المصرفي
إن إزالة البنك المركزي السوري وبعض البنوك الأخرى من قائمة العقوبات البريطانية يمكن أن يؤدي إلى تحسين تدفق السيولة النقدية داخل البلاد. فهذه البنوك كانت تعاني من عزلة مالية كبيرة، مما صعّب عليها تنفيذ التحويلات الدولية أو تأمين التمويلات اللازمة للاقتصاد المحلي. مع رفع العقوبات، يمكن للبنوك السورية استعادة بعض العلاقات المصرفية الدولية، مما يعزز التجارة الخارجية ويُعيد الثقة بالقطاع المصرفي.
2. تأثير إيجابي على سعر الصرف واستقرار الليرة السورية
لطالما عانت الليرة السورية من انخفاض حاد في قيمتها بسبب العقوبات والعزلة الاقتصادية، مما أدى إلى تضخم مفرط. مع استعادة البنك المركزي بعض أدواته المالية نتيجة رفع العقوبات، قد يتمكن من التدخل بشكل أكثر فاعلية لدعم سعر الصرف وتحقيق نوع من الاستقرار النقدي. هذا قد يؤدي إلى انخفاض تدريجي في معدلات التضخم وتحسين القدرة الشرائية للمواطنين.
3. تنشيط قطاع الطاقة وزيادة إنتاج النفط
تعتبر سوريا دولة غنية بالموارد النفطية، ولكن العقوبات الغربية أعاقت قدرة الحكومة على تصدير النفط والاستفادة من عائداته. ومع رفع العقوبات عن شركات مثل "الشركة السورية للنفط" و"شركة سوريا لتجارة النفط (سيترول)"، قد تتمكن هذه الشركات من إعادة فتح قنوات تصدير جزئية أو على الأقل تحسين الإنتاج المحلي، مما يقلل الاعتماد على الاستيراد ويخفف من أزمة الطاقة داخل البلاد.
4. تحفيز التجارة الخارجية وزيادة الواردات
كانت العقوبات المفروضة على البنوك والشركات السورية تُعقد عمليات الاستيراد والتصدير، مما أدى إلى نقص كبير في السلع الأساسية وارتفاع الأسعار. رفع العقوبات عن هذه المؤسسات قد يسهل عمليات التبادل التجاري، خصوصًا مع الدول التي لا تزال تتعامل مع سوريا مثل الصين وروسيا وإيران، مما قد يساعد في توفير السلع بأسعار أقل وتحسين العرض في السوق المحلية.
5. جذب الاستثمارات وتحفيز إعادة الإعمار
رفع العقوبات عن بعض المؤسسات قد يشجع المستثمرين الإقليميين والدوليين على استكشاف الفرص في السوق السورية، خاصة في قطاعات البنوك والطاقة والبنية التحتية. كما أن أي تخفيف للعقوبات يمثل إشارة إيجابية للمؤسسات والشركات الأجنبية التي قد ترغب في المساهمة في إعادة إعمار سوريا، مما قد يساعد في تحريك عجلة الاقتصاد وإيجاد فرص عمل جديدة.
رغم الفوائد الاقتصادية المحتملة، فإن هناك عدة تحديات قد تحدّ من تأثير رفع العقوبات الجزئي:
1. استمرار العقوبات الأمريكية والأوروبية: رغم الخطوة البريطانية، فإن العقوبات الأمريكية والأوروبية ما تزال قائمة، لا سيما على المصرف المركزي السوري، مما يعني أن معظم القنوات المالية الدولية ستظل مغلقة.
2. غياب الاستقرار السياسي: لا يزال الوضع السياسي في سوريا هشًا، ومع التغيرات الأخيرة في الحكم، تبقى هناك تساؤلات حول مدى قدرة الحكومة الجديدة على إدارة الأزمة الاقتصادية بشكل فعال.
3. البنية التحتية المدمرة: الاقتصاد السوري بحاجة إلى استثمارات ضخمة لإعادة بناء ما دمرته الحرب، وهو ما قد لا يتحقق بسرعة حتى لو تم تخفيف العقوبات.
4. ضعف الثقة الدولية: لا تزال العديد من الدول والمؤسسات المالية الدولية حذرة بشأن التعامل مع سوريا بسبب المخاوف المتعلقة بالشفافية والفساد، مما قد يحد من سرعة تعافي الاقتصاد.
الرؤية الاستشرافية لمستقبل الاقتصاد السوري
على المدى القصير، قد يساعد رفع العقوبات في تحقيق استقرار نسبي لسعر الصرف وتحسين تدفق السلع الأساسية، لكنه لن يكون كافيًا لإحداث تحول اقتصادي كبير. يتطلب التعافي الاقتصادي الحقيقي إصلاحات شاملة، بما في ذلك:
• تحسين البيئة القانونية والاستثمارية لجذب رؤوس الأموال الأجنبية.
• إعادة هيكلة النظام المصرفي لتسهيل المعاملات المالية الدولية.
• تركيز الحكومة على دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة لتحفيز النمو الداخلي.
• التوجه نحو شراكات اقتصادية جديدة مع دول مستعدة للتعاون التجاري والاستثماري مع سوريا.
أما على المدى الطويل، فإذا استمرت الدول الغربية في تخفيف العقوبات تدريجيًا، فقد تتمكن سوريا من العودة إلى الأسواق المالية العالمية والاستفادة من التمويل الدولي لإعادة الإعمار. لكن هذا سيعتمد على مدى قدرة الحكومة على تحقيق الاستقرار السياسي وتحسين علاقاتها الدولية.
يمثل قرار بريطانيا برفع العقوبات عن بعض الكيانات السورية خطوة إيجابية، لكنها ليست كافية لإحداث تحول اقتصادي شامل. ومع ذلك، فإنها توفر فرصة لسوريا لتخفيف بعض الضغوط الاقتصادية وإعادة تشغيل بعض القطاعات الحيوية. لكي تحقق البلاد استفادة حقيقية من هذه الخطوة، ينبغي على الحكومة التركيز على الإصلاحات الاقتصادية وتعزيز الاستقرار السياسي لخلق بيئة أكثر جاذبية للاستثمارات وإعادة الإعمار