صراع الضمائر ضد جرثومة الأنا

كلمة أنا
كلمة أنا

انا، ضمير رفع منفصل. هذا هو محله من الإعراب. نبتدئ الكلام به فنقول مثلا:

أنا عربي. فيكون مبتدأ وعربي خبره.

وكذلك بالنسبة للضمير أنت، وهو، وسواهما من الضمائر. فنحويا، ولغويا، لا خلاف عليها بين العرب. لكن في استخدامهم للضمائر نجد أنهم يغالون في استخدام الأنا. ولأن الأنا بغيضة على أذن سامعها حاول العرب التخفيف من وقعها بحيلة لفظية فيقولون: أعوذ بالله من كلمة أنا. وهكذا يرفع عنه تهمة المرض بجرثومة الأنا.

لكن في الواقع فإن الأنا هي من أمراضهم الخبيثة المستعصية وكأنهم رضعوها مع حليب الأم. فهي أخطر من الإيدز، والسفلس، و أنفلونزا الطيور، وأنفلونزا الخنازير، والحمى النزفية، والأبيولا، وكوفيد 19 ولا نجد هذه الجرثومة في الأمم الأخرى كما نجدها في أمة لغة الضاد. رغم أن أمثالهم تدعو إلى التواضع والبساطة. فنراهم في شعرهم يفخرون بأنفسهم وكأن الخالق خصص لهم قالبا خاصا خلقهم به ثم رماه في جهنم.

فنقرأ مثلا:

أنا الذي نظر الأعمى إلى كتبي وأسمعت كلماتي من به صمم

أنا بن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفونني

أنا بن القوافي أنا بن الفيافي أنا بن الطعان أنا بن الرعان

أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه خشاش كرأس الحية المتوقد

أنا الأديب الألمعي من حي أرض الموصل

وتكبر الأنا ويستفحل مرضها لتصيبها مرض العظمة إذا استلمت سلطة فنراها تمسك بتلابيب الكرسي ولا تدع أحدا يجلس عليه سواها. ونسمع المريض بها يقول ليعطي نفسه شرعية السلطة مثلا:

أنا سأحرق نصف أراضي العدو

أنا سأحرر الأراضي المحتلة

أنا سأمرغ أنف العدو بالتراب ...

ونكتشف بعدها أن العدو هو الذي أحرقنا وأوصل النار إلى عورتنا، وأن الأراضي المحتلة ازدادت مساحتها احتلالا. وأن الأنف الذي تمرغ في الوحل هو أنفنا وليس أنف العدو رغم طوله. ولا تخجل الأنا من نفسها لكل إخفاقاتها بل ترفع راية الانتصار، وتخترع اسماء ملطفة لهزائمها كالنكبة، والنكسة، والوعكة، وما أدراك ما الوعكة.

أما الضمير أنت فكم يتحمل، من ظلم الأنا. إذ دائما يقع عليه الفعل. فالأنت دائما مذنبة، ومشكوك في ولائها، ورغم أنها ضمير مخاطب إلا أن أحدا لا يخاطبها إلا في تلقينها التعليمات والأوامر.

أنت مطالب بالطاعة للأنا.

أنت مفروض عليك الصمت، والأنا وحدها لها الحق بالكلام.

أنت مكلف بالعمل حتى الإنهاك لصالح الأنا. والأنا تبني القصور، وتملأ المصارف الأجنبية بعرق الأنت.

أنت يجب أن تدافع عن الوطن وتموت، والأنا تراقب من بعيد وتعيش في برجها العاجي.

أنت يجب أن تصفق للأنا. والأنا تحصد التصفيق لكسب شرعية شعبية ولو كانت بالإرغام

أنت يجب أن تصوت للأنا بنعم. وألا ترفد من الوظيفة، وتوضع تحت مجهر مراقبة المخابرات.

انت يجب أن تتخلص من حواسك الاساسية فلا تسمع ولا ترى ولا تشم ولا تلمس، وحدها الأنا التي لها حق التمتع بهذه الحواس.

فالأنت هي التي تحارب وهي التي تموت. أما الأنا فهي التي ترفع راية النصر على جثة الأنت. الأنت هي التي تدخل السجون ولا تخرج منها. أما الأنا فهي التي تمللك مفاتيح السجون وتبني القصور وتعيش فيها. الأنت بتائها المفتوحة دائما مفتوحة على كل الاحتمالات. أما الأنا بألفها الممدودة كالعصا هي التي تضرب وتكسر وتسجن وتسرق وتخرج دائما مغسولة اليدين من دم الأنت.

الأنا نراها متصدرة عناوين الصحف، أما الأنت نراها في صفحة الحوادث والمفقودين والوفيات.

الأنا نراها متصدرة في المحافل الدولية. أما الأنت فنراها تتصدر مخيمات اللاجئين، وأمام أبواب منظمات المساعدات الدولية، وعلى أبواب السفارات الأجنبية جاهدة للحصول على تأشيرة هروب، وفي قوارب الموت المبحرة إلى المجهول الأوربي.

ولم نسمع مرة أن الأنا قالت للأنت: أنت شريكي وساعدي ومصيري. نسير معا، نبني معا، نتحدى معا، نقتسم الخبز معا. نعيش معا وإذا متنا نموت معا.

أما الضمير هو، فهو بالنسبة للأنا السبب في كل المصائب التي تقع على الأنت

- التخلف أفة خطيرة سببها هو أي الاستعمار.

- الحروب والانقسامات سببها هو ايضا أي الغرب بشكل عام

- الفقر، والبؤس، والمرض، والأمية، سببها هي اي الامبريالية التي تجرنا إلى الحروب، وبالتالي تستنفذ ثرواتنا المخصصة للتنمية.

- أما الطائفية والعشائرية والقبلية، وحروب الأخوة حتى العظم، فسببها هي أيضا أي التدخلات الأجنبية في نسيجنا الاجتماعي لتبقنا في جو من التناحر والتقاتل وتفريق الكلمة.

ولكن لو فكرت الأنا مرة واحدة أن تدخل عنصرا اساسيا في المعادلة الرياضية البسيطة وهي:

أنا + أنت + هو+ هي = نحن فهذا هو الضمير الوحيد الذي يجمعنا وهو الكفيل الوحيد بالقضاء على نكساتنا ومآسينا، وبالطبع على الأنا، ويجعلنا ندافع عن أنفسنا بأنفسنا، ولا نبحث عن نصير لنا في زعماء جاراتنا الذين باتوا، بحكم خشية الأنا على نفسها من اتخاذ مواقف وطنية مشرفة، أبطالا قوميين في بلادنا.

فنحن يبقى دائما أقوى الضمائر، هو الذي يبني، ويتقدم، ويدافع، وينتصر، ولديه مناعة قوية ضد جرثومة الأنا.