في مثل هذا اليوم من 21 آب/أغسطس عام 2013، توسعت قائمة جرائم النظام الأسدي لتبلغ استخدام الأسلحة الكيماوية "المحرمة دولياً" لقتل المدنيين الأبرياء، بعد أن وصل النظام إلى حافة الانهيار ولم يعد أمامه سوى إرهاب الشعب السوري بالأسلحة الكيماوية.
في ريف دمشق و بمنطقة الغوطة الشرقية تحديداً، تعرض الأهالي لهجوم من (غاز السارين السام ) أو ما يسمى بغاز الأعصاب القاتل، مسبباً شللاً في الجهاز العصبي المؤدي إلى الموت بسبب توقف عمل الجهاز التنفسي.
أثناء نوم أهالي الغوطة و مع بزوغ خيوط الفجر الأولى قام النظام بإطلاق صواريخ محملة بغاز السارين فتعرض الناس لأعراض تسمم حادة نتيجة استنشاق الغاز مصطحباً أعراض كالاختناق، والتشنجات العضلية الحادة، الشلل المؤقت، وفقدان الوعي..
ومن المشاهد المؤلمة التي ذكرها أحد شهود العيان معاناة الناس من الاختناق وهم يتلوون من الألم، فكثير من الناس لقوا حتفهم خلال دقائق، بينما آخرون عانوا من اختناق تدريجي حتى الموت.
والمشهد الأكثر قساوة هو جثث الضحايا المرصوصة في الشوارع والمستشفيات الميدانية، فقد كان الأطفال الأكثر تأثراً بالغازات السامة، وأظهرت صور لاحقة لهم عن معاناتهم من حالات الاختناق والتشنجات التي تسببت بموت المئات منهم.
الكادر الطبي عمل تحت ظروف صعبة، والرعاية الطبية في تلك المناطق كانت شبه منعدمة بسبب النقص الحاد في الأدوية والمعدات الطبية والأقنعة الواقية، ما أدى إلى موت الكثير من الناس.
وكانت حصيلة الضحايا الذين قُتلوا ما بين 1,400 و1,700 شخص من المدنيين معظمهم من الأطفال والنساء.
لم يكن تأثير هذه المجزرة صحياً فقط على المدنيين بل رافق ذلك الهجوم نزوح جماعي للسكان تاركين خلفهم ممتلكاتهم وحاجياتهم، فارين إلى أماكن كالمخيمات التي تفتقر لأدنى وسائل العيش كالماء النظيف والغذاء والرعاية الصحية.
لم تكن معاناة الأطفال تقتصر على الأمراض والبرد والجوع، فقد عانوا من الصدمات النفسية بسبب
المشاهد المروعة التي شهدوها من الموت والاختناق، عانى العديد منهم من اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD) والاكتئاب والقلق الشديد.
كما عاشوا في حالة من الرعب المستمر، تحسباً من تكرار الهجوم الكيماوي.
ولكي تكتمل اللوحة المأساوية السورية، جاءت هذه الأوضاع الصعبة بالتزامن مع صعوبة للإستجابة الدولية بالوصول إلى المناطق المتضررة بسبب استمرار القتال والحصار المفروض من قوات نظام الأسد على العديد من مناطق المعارضة.
موقف المجتمع الدولي والإفلات من العقاب
المجتمع الدولي كعادته يستنكر بصوت قوي وعالي الوتيرة أي جريمة تقع بحق الشعوب، ولكن تتناقص حدة الصوت رويداً رويداً مع بعض التفاهمات الدبلوماسية والسياسية مع دول أخرى.
فالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، وألمانيا وجّهوا الإتهام ضد النظام السوري، وطالبوا بتحقيق شامل وتدخل دولي لمعاقبة المسؤولين عن الهجوم.
الولايات المتحدة برئاسة باراك أوباما اتخذت في ذلك الوقت موقفاً حازماً تجاه هذه المجزرة وطالبت بإجراء تحقيقات دولية ومحاسبة المسؤولين.
أما الأمم المتحدة بدورها أرسلت بعثة لتقصي الحقائق بقيادة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وكانت نتائج التحقيق:
* أن الصواريخ المستخدمة في الهجوم كانت من أنواع معروفة بأنها جزء من ترسانة الجيش السوري.
* الأسلحة الكيميائية المستخدمة، مثل غاز السارين، كانت موجودة ضمن ترسانة الأسلحة السورية وفقًا لتقارير دولية قبل اتفاقية التخلص من الأسلحة الكيميائية في عام 2013.
* والأهم ... أكدت أن الصواريخ التي أطلقت على المناطق المستهدفة جاءت من مناطق تحت سيطرة النظام.
أما النظام الأسدي نفى مسؤوليته كعادته عن الهجوم، ووجه أصابع الاتهام إلى المعارضة.
الولايات المتحدة هددت بشن ضربات عسكرية ضد النظام السوري، لكن روسيا استغلت هذه المجزرة لتحقيق مكاسب سياسية ودبلوماسية، فقامت بعرقلة أي محاولة لتوجيه اتهامات مباشرة للنظام السوري.
واستغلت الهجوم الكيميائي في الغوطة لتقويض المبادرات الدولية الرامية إلى إيجاد حل سياسي للأزمة السورية، واستخدمت حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي لمنع اتخاذ أي إجراءات عقابية ضد النظام السوري.
الولايات المتحدة التي قالت: استخدام الاسلحة الكيماوية المحظورة دولياً هو ، "خط أحمر" تراجعت عن موقفها بشن الضربات العسكرية لأنه تزامن مع التحضير للاتفاق النووي خمسة زائد واحد مع إيران، خشية أن ضربةً للحليف الإيراني في دمشق يعرقل هذا الاتفاق، وأيضاً بعد اتفاق "أمريكي _ روسي" أبرز ما نصَّ إليه وقف الضربة العسكرية ضد نظام الأسد وإزالة وتدمير الترسانة الكيميائية السورية، ما أعطى النظام السوري فترة راحة.
وبالتالي هذا الاتفاق رسخ مكانة روسيا كطرف رئيسي في الأزمة السورية وكحليف أساسي للنظام السوري. ومن خلال هذا الدور، أصبحت روسيا القناة الرئيسية للحوار بين الغرب والنظام السوري، مما منحها نفوذاً دبلوماسياً وعسكرياً أكبر في المنطقة.
فالاتفاق المشؤوم، مثّل نقطة تحول في العلاقات الروسية-الأمريكية في سياق الأزمة السورية.
بفضل وساطتها، تمكّنت روسيا من تقديم نفسها كقوة دولية قادرة على حل الأزمات دون الحاجة إلى استخدام القوة العسكرية، مما أكسبها مزيدًا من الشرعية والنفوذ الدولي. و قلل من قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على التدخل المباشر في الأزمة السورية وأبقى النظام السوري في السلطة.
وأدى لاحقًا إلى تدخل عسكري روسي مباشر لدعم نظام الأسد في عام 2015 . وقلب موازين القوى لصالح النظام السوري، بإستعادة السيطرة على العديد من المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة.
الانعكاسات السلبية التي وقعت على المعارضة السورية:
هذه المجزرة كانت نقطة تحول جذري، ولكن بكل أسف هذا التحول لم يكن ضد نظام الأسد!
فمن المنطق.. بعد هذه المجزرة يتوجب على المجتمع الدولي بعد نتائج التحقيق، تجريم الأسد واتخاذ بحقه عقوبات دولية، وإنقاذ الشعب السوري... هذا منطقياً
لكن ما حصل فهو العكس تماماً، الأحداث التي تلت هذه المجزرة ابتداءً من الاتفاق الأمريكي الروسي أضعف موقف المعارضة السورية، التي أَمِلت بتدخل عسكري غربي يقلب موازين القوى لصالحها. ولكن عدم حدوث هذا التدخل أدى إلى تراجع قدرتها على تحقيق مكاسب عسكرية ضد النظام.
بل منح النظام فرصة لتمكين مواقعه وإعادة ترتيب أوراقه على الأرض، عزز في الوقت ذاته من نفوذ روسيا في سوريا، وترك الصراع السوري يستمر لفترة أطول مع استمرار المعاناة الإنسانية.
عدم اتخاذ اجراءات حقيقية بحق المجرم الذي ارتكب هذه المجزرة أدى إلى تكرارها، كإرتكابه مجزرة خان شيخون في الرابع من أبريل 2017 أدت إلى مقتل أكثر من 80 شخصاً مستخدماً غاز السارين.
و مجزرة دوما في 7 أبريل 2018 استخدم غاز الكلور وقُتِل فيها مئات الضحايا من المدنيين.
بالإضافة لعشرات الضربات الكيماوية لعدة مناطق في سوريا.
مجزرة الغوطة الكيماوية كشفت مدى وحشية النظام الأسدي، واستخدامه أبشع وسائل القتل حتى أسلحة الدمار الشامل ضد المدنيين الأبرياء، وعلى الرغم من مرور سنوات على هذه الجريمة، وعلى الرغم من تحقيقات منظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW) التي حققت في عدة هجمات كيميائية بعد 2013، وأكدت استخدام مواد كيميائية مثل غاز السارين والكلور في بعض الهجمات.
وبالاضافة إلى توصل فريق التحقيق الدولي المشترك في عدة تقارير إلى أن النظام السوري مسؤول عن استخدام الأسلحة الكيميائية، بما في ذلك غاز السارين والكلور.
مع كل ذلك لم يتم محاسبة الأسد بل تُرِك طليقاً يتفنن في إفساد البلد وتدهوره اقتصادياً وعسكرياً وإنسانياً، وجعله مرتعاً للإرهاب والعصابات والاحتلال.
عن موقع الجزيرة نت