عن موقع الجزيرة نت
مقالة عن مجزرة حماه +18
في 28 من شباط عام 1982 طُويت آخر صفحة من صفحات مذبحةٍ دامت سبعة وعشرين يوماً، اُسدل الستار على مسرح من الدماء والشهداء الذين قُتلوا على أيدي أبناء جلدتهم. كانت الصفحة الأخيرة من مجزرة صنفتها منظمة العفو الدولية على أنها "كبرى مجازر القرن العشرين".
فلم يكن هذا الوصف تعبيراً مجازياً، بل وفق معايير ومعطيات حول تلك المجزرة التي يندى لها الجبين من شراسة وإجرام ما حصل بها، على أيدي فرق من الجيش السوري، وعلى رأسها قوات سرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد، للقضاء على المعارضة تحت ذريعة الارهاب، الحجة التي مازالوا يوهمون بها العالم لتبرير مجازرهم وإجرامهم لغاية يومنا هذا.
هذه المجزرة حدثت بدم بارد بمباركة ودعم أمني وعسكري من قِبل حافط الأسد، ودفع ثمنها الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين الذين لاحول لهم ولا مطلب، ولا حتى رأي سياسي لأنه من الجرم أن يتفوه المرء بأي رأيي سياسي ربما لايتماشى مع متطلبات حزب البعث الحاكم وآفاق النظام الأسدي.
في هذه المجزرة قُتل أكثر من 40 ألف شخص موثقين من منظمات لحقوق الانسان، وقد روي عن أحد المنشقين من سرايا الدفاع في بداية الثورة السورية عام 2011، أن العدد يفوق هذا الرقم حيث بلغ عدد الشهداء في تلك المجزرة ما يقارب ثلث سكان حماه، أي أكثر من مئة ألف شهيد من المدنيين.
ولم تكن حماه هي المجزرة الوحيدة في تلك الحقبة منذ انقلاب حزب البعث على السلطة عام 1964، ولكنها كانت الأبشع على الاطلاق.
أحداث مجزرة حماه
بدأت المجزرة في الثاني من شباط بحصار المدينة، وقطع الماء والكهرباء والاتصالات عنها، مع فرض حظر للتجوال.
وبعد ذلك قصف جيش النظام المدينة بالطائرات والمدافع، الذي أدى الى تدمير أحياء المدينة وقتل المئات من المدنيين، وبعد يومين من القصف بالطائرات، بدأ الاقتحام البري بالفرق العسكرية والدبابات و راجمات صواريخ وقاذفات هاون التي قصفت ماتبقى من أحياء المدنيين ومنازلهم.
لم يوفر جنود النظام الأسدي في ذلك الوقت لا الحجر ولا البشر، فباتت حماه بعد أيام من القصف والاقتحام البري
مدينة عابرة للتاريخ، كالتي مر عبرها المغول وفتكو بها كالوحوش، فالمشهد الذي سيطر على حماه في ذلك الوقت وخلال اسابيع المجزرة، هو الدمار شبه الكامل للمدينة وجثث تغطي الشوارع وتنهشها الكلاب، ونحيب الأمهات على أبنائهن.
هذه هي المشاهد المأساوية التي بقيت في ذاكرة أهلنا في حماه وصمت عنها العالم.
مأساة أهالي حماه
عاش في تلك الفترة أهلنا في حماه تحت القصف لمدة عشرة أيام، أعطى من خلالها الجيش مهلة للمدنيين لشراء حاجياتهم من الخبز والطعام، ليقوموا بذلك الوقت بإنشاء حواجز أمنية تقوم باعتقال المدنيين بدون أسباب، وخصوصاً الأطباء والمهندسين والصيادلة والمتعلمين، وكانوا يقومون بإعدامهم ميدانياً رشاً بالرصاص.
أما عن المدنيين الذين بقوا في منازلهم، فلم يسلَموا من الممارسات بل قام الجيش وفرق الأمن باقتحام البيوت بشكل همجي واعتقلوا كل الرجال والأطفال الذكور في البيوت، وقاموا باغتصاب النساء والفتيات القاصرات، مع تخريب البيوت ونهبها.
ومن تم اعتقاله سواء من البيت أو عن طريق الحواجز، فجمعونهم في نقطة معينة بالحي وقاموا برشهم بالرصاص، والأسوء من تم قتله على جدار منزله بالرشاش مع تحذير للعائلة بعدم سحب الجثث لمدة ثلاثة أيام، نوعاً من الاجرام النفسي لأهالي الشهيد، فأي عقل يحتمل وجود جثمان أبنائه على باب المنزل دون أن يكرمهم بدفنهم على الأقل.
جزء ممن تم اعتقاله تم أخذه إلى الملعب البلدي في المدنية، حيث اجتمع أكثر من سبعمئة شخص من الرجال والأطفال الذكور وتم قصفهم بالطيران وجعلوا من هذا الملعب مقبرة جماعية لسكان حيها.
ولم يكتف الجنود بقتل المدنيين، بل اقتحموا المشافي و نكلوا بعدد من الجرحى كقطع الاعضاء وفقع العيون وبقر بطون الحوامل وفق شهود عيان.
شهادات حية ممن عاصر تلك المجزرة الأليمة
ما يُذكر في هذه المقالة هو "بعض" مما تمكن بعض الأهالي بالحديث عنه و غيض من فيض لما حل بالحبيبة حماه.
• روي عن شقيقتين قاصرتين نجتا من المجزرة كيف قامت الجنود بقتل 27 فرداً من عائلتها بما فيهم طفل رضيع مع والدته، هاتين الشقيقتين وجدوهم على قيد الحياة بعد أيام من قتل عائلتهم، فأرسلوهم إلى عمتهم التي رأتهم قد فقدوا النطق، وكانوا في حالة نفسية يرثى لها.
• تحدثت إحدى الشاهدات عن ابن خالتها وكيف استشهد وهو متزوج حديثاً بعد اعتقاله من منزله وكيف ذهب أخوه للحي ليبحث عنه فوجد جثمان أخيه وأمعاؤه خارج جسده، عاد الرجل إلى أمه وشعره أبيض وبحالة يُرثى لها، الشهيد الذي قُتل بهذه الطريقة البشعة كان من المتفوقين بمادة الفيزياء والكيمياء.
• حال الشهيد المؤلم لم يكن أسوءَ حالاً عن غيره، حيث روى أحد المعتقلين أنهم وضعوه في الثانوية الصناعة في الورشات مع مجموعة من الشباب، و تم ممارسة أشد أنواع التعذيب على المعتقلين،لاتخطر على البال لدرجة أنهم شقوا بطن جريح وانتشلوا كبده ومثلوا فيه.
فالتمثيل بالجثث وفنون القتل لم تخف على أحد كقصة مقتل "طبيب العيون" عمر الشيشكلي واقتلاع عينيه التي يعرفها معظم سكان حماه.
• ولن تخفى على ذاكرة أهالي حماه وبالأخص منطقة الحاضر رمي المعتقلين على الأرض ومشي الدبابات فوقهم وهم أحياء، و حي الباشورة الذين صب جنود من فرق الانزال الجوي بالأسيد على الاهالي ، وجمع مجموعة من الأهالي في منشرة وحرقهم أحياء.
• من أحد القصص المؤلمة التي ذكرتها سيدة عن احدى جاراتها وهي تبكي بحرقة بعد سنوات من الحادثة، ولدت تلك الجارة في أحد المشافي بحماه أثناء المجزرة، حين اقتحم جنود النظام المشفى وسألها عن وضعها فقالت لقد ولدت حديثاً فسألها عن مولودها فأجابت بأنه ذكر، فما كان من هذا المجرم إلا أن يخلع عن الطفل ملابسه ليتأكد بأنه ذكر، و يقوم بشقه الى نصفين!
• لم يكن القتل سيد الموقف فحسب، بل النهب والسرقة أثناء الاقتحامات، ففي حادثة عن أحد الجنود الذي لمح أساور الذهب في يد إمرأة، فتمنعت المرأة عن اعطائه الذهب فقام بقطع يدها لأخذ ذهبها.
الكثير ممن نجا من تلك المجزرة الأليمة كان قد فقد عقله.. فأي عقل يقوى على تحمل تلك المشاهد الدموية المرعبة.
فلا يخلو بيت في حماه إلا وله فقيد من العائلة أو المعارف، ولا يوجد أحد إلا و شاهد أو سمع عن بشاعة ماتعرض له أبناء مدينتهم من قتل وتعذيب وتنكيل.. هؤلاء سلموا من أيدي جنود الأسد ولكن بقوا على قيد المأساة.