في مثل هذه الأيام من شتاء العام 2014 وفي زيارةٍ لمدينة غازي عنتاب، قادمة من الأردن التي كنت أقيم فيها بعد اندلاع الثورة لتأييدي لها عبر عملي الصحفي والإعلامي، لعقد اجتماع الهيئة العامة لرابطة الصحفيين.
كانت زيارتي لمدة ثلاث أيام، وفي طريق العودة كانت طائرتي ستحط في مطار اسطنبول كترانزيت لمدة ساعتين، ولحسن الحظ.. والدتي في تلك الأثناء كانت في زيارة خاطفة لاسطنبول قادمةً من دمشق.
حطت طائرتي في مطار اسطنبول، وكنت أحاور نفسي عن صعوبة الذهاب للقاء والدتي البعيدة عن المطار.
ما إن حطت الطائرة على أرض المطار، وبدون تفكير انطلقتُ كالسهم العابر للقارات، فلا أعرف كيف تخطيت الأماكن والبشر والأشياء، متوجهةً إلى الباب الرئيسي للمطار، لأستقل أول سيارة أجرة، مترجيةً السائق أن يحلّق بسيارته عالياً متجاوزاً الشوراع والسيارات وإشارات المرور.. وفعَلَ ذلك الشهم.
وصلنا بسرعة البرق.. و حان موعد اللقاء..
جاءت تلك اللحظة التي أعجز عن وصفها وعن ترجمة تلك المشاعر التي سيطرعليها الشوق والحب والفرح تارةً، والألم والحزن والخوف تارةً أخرى.
بكينا كثيراً.. وأطلنا العناق..
وبقيت تلك المشاعرالرابح الأكبر التي سلبت مني قوتي و صبري وتفكيري.
لم أكن أريد قول شيء.. أردت فقط النظر إلى وجهها.. أردت لمسها.. وأعاود العناق مرة أخرى.
ثلاثون دقيقة كنت في أحضان أمي فقط.. كانت الأروع في حياتي.
ثلاثون دقيقة أعادتني ثلاثون عاماً إلى الوراء.
كنت استرق النظر إلى ساعتي، كنت أخشى أن ينتهي الوقت، وكأني أرجو عقارب الساعة أن تتوقف عن الدوران.
آن موعد الرحيل، ولم تكن دموع الوداع أقل حرقة من دموع اللقاء...
عدت إلى المطار وأحمل الكثير من الأفكار والصور والمشاهد.
تراءت لي صور الأمهات اللاتي شيّعن أولادهن، والأمهات اللاتي لا يعرفن مصير أبنائهن في المعتقلات، والأمهات اللاتي تعيش على ذكريات أبنائهن وبناتهن المهجّرات.
مشاهد ألم الفراق للأمهات السوريات وأبنائهم وبناتهم رافقتي في رحلتي بطريق العودة.
مشاهد.. هي غيض من فيض لما آلت عليه الثورة السورية، وما حلّ بالشعب السوري.
تلك المشاهد ومشاهد أخرى هي أفظع ستصاحب معظم أبناء الشعب السوري، ستبقى في ذاكرتهم، وسيبقى الشوق والحنين لذكرياتهم ومقتنياتهم وأحبتهم محفورة في قلوبهم وعقولهم.
أما شوقي وحنيني سيبقى ناراً تتقد في داخلي، إلى أن تمحيها تلك الحدود والظروف ولا تكون عائقاً للقاء الأحبة، للقاء آخر أكون فيه بين أحضان الحبيبة.