(عن القدس العربي)
صورة المقاتل الفلسطيني الذي ألصق عبوة ناسفة على الدبابة الإسرائيلية من النقطة صفر انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي في كل أركان المعمورة، وعبارة من النقطة صفر أصبحت أكثر تداولا كونها تمثل عودة الانطلاقة الحقيقية للنضال الفلسطيني أي من الصفر مع بدء عملية طوفان الأقصى، وكل ما سبق لم يصل إلى هذه النقطة.
ونقطة الصفر هنا تعني أن الفلسطيني المقاوم اليوم لم يعد يعتمد على الأنظمة العربية في نضاله، بل عاد ليبدأ من الصفر وهو الاعتماد على النفس، فالفلسطيني الذي لجأ إلى الكفاح المسلح لتحرير أرضه بيده وليس بأيدي الآخرين كان مقتنعا بعد مرور سبعة عقود ونيف أن التحرير لا يتم إلا على أيادي أبنائه.
المربع الأول
ومهما يكن من أمر نتائج هجوم “طوفان الأقصى” فإن هناك نقاطا كثيرة من الصفر وضعها مقاتلو حماس أمام الشعب الفلسطيني، والقيادات الفلسطينية المختلفة، ودولة الاحتلال، والأنظمة العربية، والقوى العالمية كلها دفعة واحدة، وبمعنى آخر فقد أعادت القضية الفلسطينية إلى مربعها الأول ونبش الماضي وتصحيح أخطائه.
“طوفان الأقصى” وضع النقطة الناقصة على الحرف الفلسطيني أولا، فمنظمة التحرير الفلسطينية الموقعة على اتفاقية أوسلو لا تزال تؤمن أن الطريق إلى الدولة الفلسطينية يمر عبر مفاوضات سلمية مع دولة الاحتلال على الرغم من مرور ثلاثة عقود عليها دون إحراز أي تقدم نحو بناء هذه الدولة، بل أن أراضي الضفة الغربية التي كان من المفترض حسب الاتفاقية أن تقوم عليها الدولة الفلسطينية بالإضافة إلى غزة قد تآكلت مساحتها التي تم الاستيلاء عليها عن طريق زرع المستوطنات، وبناء سور الفصل العنصري.
ووقفت في هذه النقطة المصيرية أمام العملية الجريئة “الحمساوية”وقفة المتفرج مع أن الشارع الفلسطيني في الضفة أظهر عكس ذلك عبر المواجهات المستمرة مع جيش الاحتلال، وقوافل الشهداء اليومية، والمظاهرات المؤيدة لإخوانهم في غزة، والاعتقالات المستمرة من قبل دولة الاحتلال لأبناء الضفة (أكثر من 2000 معتقل منهم الفنانة دلال أبو آمنة والناشطة عهد التميمي).
مستقبل غزة بعد انتهاء الحرب؟
والسؤال المطروح بإلحاح اليوم ما هو مستقبل غزة بعد انتهاء الحرب؟ وما هو مستقبل الضفة الغربية أيضا؟
إذ نجحت حماس بخلط الأوراق الفلسطينية وكسبت الشارع الفلسطيني الذي أشعرته أن عملية التحرير ممكنة بأبسط الإمكانيات عندما تتوفر العزيمة والإيمان بالقضية. وأن “طوفان الأقصى” من الممكن جدا أن يتكرر بنسخة جديدة في الضفة، وهذا ما يخشاه أكثر من طرف.
وانضم فلسطينيو الداخل في دولة الاحتلال إلى إخوانهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي رغم تعرضهم للمضايقات والمحاسبة والفصل من وظائفهم، وطرد الطلبة من الجامعات، ومعاقبتهم.
كما عبر فلسطينيو الشتات عن تضامنهم مع إخوانهم في فلسطين على أكثر من صعيد ومحفل دولي. وهذا لم يحدث أبدا خلال كل فترة النضال الفلسطيني منذ بداياته. فما حققته هذه العملية أولا وقبل كل شيء هو عودة القضية الفلسطينية إلى المشهد الدولي.
الأنظمة العربية
كما تفاجأت دولة الاحتلال بعملية طوفان الأقصى، تفاجأت الأنظمة العربية فكانت ردة فعلها باهتة بعد اجتماع وزراء خارجيتها وبيان الجامعة العربية، وران الصمت بعدها خلال شهر كامل قتلت دولة الاحتلال خلاله أكثر من عشرة آلاف فلسطيني جلهم من الأطفال والنساء، ودمرت عشرات آلاف المنازل والبنى التحتية والمشافي.
وفي اليوم الثالث والثلاثين فقط من الهجوم الوحشي على غزة عقدت قمة الدول العربية والإسلامية التي خرجت ببيان باهت لم يرق إلى مستوى الحدث، ولم يرد على هتافات الملايين الذين تظاهروا في عواصم ومدن عربية ودولية، وأظهرت كل الدول العربية والإسلامية عجزها عن وقف إطلاق النار على غزة مع أن لديهم كل الإمكانيات للضغط على المجتمع الدولي بوسائل مختلفة دبلوماسية، واقتصادية، ومالية.
ببساطة لم يرق إلى مستوى المأساة الفلسطينية وتطلعات الشعوب العربية. وأمام أعينهم تتم نكبة ثانية للشعب الفلسطيني تعيد للأذهان ذكرى النكبة الأولى، وصمت الأنظمة العربية مرة أخرى، وهذا لن يغير من جرائم إسرائيل في شيء بل أن إسرائيل طالبتهم بإدانة حركة حماس.
والغريب في الأمر هو دعوة رئيس النظام السوري بشار الأسد الذي تلطخت يداه بدماء الفلسطينيين في مخيم اليرموك، وإعدام مئات الفلسطينيين في سجونه، ليطالب بوقف أي علاقات سياسية مع إسرائيل، وهو لا يجرؤ حتى على الرد على اعتداءات إسرائيل على سوريا وتدمير مطاراتها وموانئها، ولم يطلق حتى طلقة واحدة لتحرير الجولان منذ أكثر من نصف قرن. حتى أن وزير الثقافة والرياضة الإسرائيلي سخر منه وقال: إن “بشار الذي يذبح شعبه بوحشية المعروف باسم “جزار دمشق” ومغتصب النساء وقاتل الأطفال يعظنا بالأخلاق، هذا هو النفاق الذي لا يعرف حدودا” منتقدا “بشار الأسد” حيال تعاطفه مع الشعب الفلسطيني في غزة لقاء ما يتعرضون له من قصف إسرائيلي في مشهد لا يختلف عما يفعله الأسد طيلة اثني عشر عاماً بحق الشعب السوري.
وجدت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة نفسها أمام تحد جديد ربما كان أكبر وأخطر من تحدي احتلال أوكرانيا من قبل روسيا، ذلك أنها وجدت بين ليلة وضحاها نفسها أمام تحد لم يكن بالحسبان: إنقاذ إسرائيل التي بدت وكأنها تترنح تحت ضربة “طوفان الأقصى”، بل وظهر جيشها “الذي لا يقهر” أنه أوهن بكثير مما صور نفسه، وأن جبروت آلته العسكرية تتحطم بأبسط الأسلحة المحمولة، فمشاهد الدبابات والآليات العسكرية التي تدمر بالعشرات أذهلت العالم أجمع، وأحدثت فوضى كبيرة في مواقف وردود فعل العالم الغربي بل وهددت التوازنات بشكل عام، ولم تتوقع حكومات الغرب أن الرأي العام العالمي سينقلب ضدها وضد إسرائيل، وملأت الجموع الغفيرة شوارع المدن الأوروبية والأمريكية رافضة العدوان الإسرائيلي ومناصرة للفلسطينيين، وهذا لم يحدث في حرب أوكرانيا.
ومهما يكن من أمر فإن عملية طوفان الأقصى قد أعادت إحياء القضية الفلسطينية في الوقت الذي كان يخطط لها في الخفاء بالقضاء عليها نهائيا، وإعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل باحتلال غزة والضفة الغربية، والخريطة التي عرضها بنيامين نتنياهو بضحكة عريضة على منبر الأمم المتحدة والتي تظهر دولة إسرائيل تضم غزة والضفة الغربية خير دليل على ذلك، ولم نسمع أي رد فعل من أي نظام عربي أو الجامعة العربية. لكن عملية طوفان الأقصى قلبت الطاولة على الجميع، واليوم لا بد من الأخذ بعين الاعتبار نقطة الصفر الفلسطينية.
كاتب سوري