بعد إسقاط النظام البائد، كان كثيرون ينتظرون أن يكون التعليم في قمة هرم الأولويات في سوريا الجديدة؛ لا مجرد قطاع من بين قطاعات كثيرة تتنافس على فتات. لكن الواقع يقول بوضوح إن المعلم، وهو أهم عنصر في العملية التربوية ورافد أساسي للتنمية المجتمعية والاقتصادية والسياسية، ما زال آخر من يُكافأ وأول من يتحمل كلفة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. ومما لا شك فيه أننا أمام بلد يحاول إعادة بناء الدولة ومؤسساتها بعد ثورة استمرت أكثر من عقد، فيما يقف المعلم في الصفوف الأولى لمواجهة آثار الحرب داخل المدرسة، مع أطفال منكسرين اجتماعياً ونفسياً واقتصادياً، وبنى تحتية مهدمة، وتفكك مجتمعي واضح بين مناطق كانت أكثر تضرراً من غيرها. ومع ذلك، ما زال ما يتقاضاه المعلم، مادياً ومعنوياً، أقل بكثير مما يفترض إذا ما تم مقارنته بالقطاعات الأخرى كالأمن والقضاء.
وتظهر المقارنات الدولية أن سوريا اليوم تقع في أدنى شريحة عالمية من حيث رواتب المعلمين. فبحسب البيانات الحديثة، يتقاضى المعلم السوري في أفضل الحالات نحو 150 إلى 200 دولار شهرياً، وهي أجور لا تكفي لتغطية 20% من احتياجات الأسرة المعيشية، مما يدفع أغلب المعلمين إلى العمل الإضافي في مجالات غير التعليم. هذا التدهور في الأجور يخلق حلقة مفرغة من ضعف الأداء التربوي وانخفاض جودة التعليم، في وقت يفترض أن يكون فيه التعليم المحرك الأساس لإعادة الإعمار البشري والاجتماعي في البلاد.
في الدول المجاورة لسوريا، تظهر المقارنات أن وضع المعلم السوري هو الأدنى بلا منازع. فبحسب بيانات عام 2025، يبلغ راتب المعلم في تركيا نحو 70 ألف ليرة تركية شهرياً، أي ما يعادل تقريباً 1,700 دولار أمريكي، مع فروقات بين المدارس الحكومية والخاصة. أما في العراق، فيتراوح متوسط راتب المعلّم الحكومي بين 700 و1,700 دولار شهرياً بحسب الدرجة والخبرة والقدم الوظيفي، بينما يحصل المعلم في الأردن على نحو 800 إلى 1000 دولار شهرياً وسطياً في القطاع العام أما في القطاع الخاص ما بين 600 إلى 800 ولار شهرياً، وفي السلطة الفلسطينية يتراوح الراتب بين 1,000 و1,600 دولار شهرياً بحسب المستوى والتدرج. هذه الأرقام جميعها تبرز الفجوة الكبيرة بين أوضاع المعلمين في سوريا وبين نظرائهم في محيطهم الإقليمي، الأمر الذي يضع ملف المعلم السوري في صدارة أولويات الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي وحتى السياسي إن كانت الحكومة جادة فعلاً في بناء منظومة تعليم مستدامة.
في الوقت نفسه، تحاول سوريا الخروج من واحدة من أعقد أزمات التعليم في المنطقة. تقارير دولية تشير إلى أنّ أكثر من 2.5 إلى 3 ملايين طفل سوري ما زالوا خارج المدرسة بسبب تدمير البنية التحتية، والفقر، ونقص الكوادر التعليمية، واستمرار جيوب عدم الاستقرار في بعض المناطق. هذا يعني ببساطة أن جزءاً كبيراً من الجيل الذي يفترض أن يحمل مشروع سوريا الجديدة مهدد بأن يكبر خارج أي مسار تعليمي منظم. ولا ننسى بأن المعلم هو خط الدفاع الأول ضد اتساع الفجوة التعليمية والاجتماعية، فكل معلم يتمسك بمدرسته في ريف مدمر أو حي مهمش يخفف دون مبالغة درجة من درجات الانزلاق نحو العنف والتفكك الاجتماعي مستقبلاً.
لكن المشكلة لا تقف عند حدود الأجر، إذ أن الواقع التعليمي يحتاج إلى قيادة تربوية استثنائية لإدارة التعليم في مرحلة ما بعد الأزمات، لا إلى إدارة تقليدية للمدارس والمناهج. فإدارة التعليم في بلد خرج للتو من حرب طويلة ليست إدارة دوام وتعيينات لمديرين ومشرفين وامتحانات فقط، بل إدارة تعاف اجتماعي وإعادة بناء ثقة وتضييق فجوات بين مناطق الشمال والجنوب والشرق والغرب. اليوم، يعيش المجتمع السوري تفككاً اجتماعيا واضحا، فهناك مناطق ريفية كانت في قلب المواجهات، ومدن استقبلت نازحين بأعداد كبيرة، ومجتمعات تبدلت بنيتها الطبقية والعشائرية وما إلى ذلك من آثار صعبة. في هذا السياق، يصبح المعلم أحد أهم عوامل في تماسك النسيج الوطني، ليس عبر الشعارات، بل من خلال ما يزرعه من قيم ومهارات وقدرة على الحوار في غرفة الصف، فهو المؤثر الأكبر في الجيل القادم. فإذا ترك مكسوراً اقتصادياً ومهنياً، فإننا نضعف أحد الأعمدة الرئيسية لإعادة إنتاج النسيج الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في سوريا.
من الزاوية الدولية، التزام سوريا الجديدة بأجندة التنمية المستدامة، خصوصاً الهدف الرابع (SDG4) المتعلق بـالتعليم الجيد المنصف والشامل للجميع، يتطلب ترجمة هذا الالتزام إلى سياسات ملموسة تجاه المعلمين أي رواتب مناسبة، وتدريب مستمر، وبيئة عمل لائقة، ومسار مهني واضح. تقارير اليونيسكو تؤكد أن جودة التعليم واستدامته ترتبط بشكل مباشر بتوافر معلمين مؤهلين ومحفزين، وأن الاستثمار في المعلم هو أحد أبرز محددات تحقيق الهدف الرابع من عدمه. لذا، فإن إصلاح التعليم لا يمكن أن يتم دون إصلاح حال المعلم أولاً، لأن أي استراتيجية تنموية تفقد قيمتها ما لم تبدأ من الفاعل البشري الذي يترجمها في الميدان.
عملياً، يمكن تلخيص المطلوب في ثلاث طبقات متكاملة: طبقة إسعافية عاجلة، وطبقة إصلاح هيكلي متوسط المدى، وطبقة تحول استراتيجي طويل الأمد:
على المدى القريب العاجل، هناك حاجة إلى آليات سريعة جداً لرفع دخل المعلم، ولو عبر حزمة مركبة يعني زيادة مباشرة على الراتب الأساسي، بدلات للمناطق الأشد تضرراً، وبدل خاص للمدارس الريفية والنائية (كل هذا على سبيل الافتراض). ويمكن أيضاً تشجيع مبادرات المجتمع المحلي لدعم بعض المدارس، على أن يتم ذلك ضمن إشراف حكومي منظم يمنع الفوضى أو التمييز والأهم أيضاً على المدى القصير تثبيت معلمي المناطق المحررة (سابقاً) وكذلك المعلمين الذين بدؤوا مسارهم المهني في دول اللجوء التي سمحت بافتتاح مدارس خاصة بالسوريين مثل تركيا والأردن ولبنان..
في المدى المتوسط، يجب إعادة تصميم مهنة التعليم في سوريا على أساس مهنة ذات مسار مهني، وليس مجرد وظيفة ثابتة براتب ضعيف. وهذا يقتضي إعادة هيكلة برامج إعداد المعلمين في الجامعات والمعاهد التربوية لتأهيل معلمين قادرين على التعامل مع الفجوات التعليمية والصدمات النفسية لدى الأطفال، ويمكن في هذه الحالة تعزيز دور مراكز التعليم المستمر في الجامعات والمعاهد ورفدهم ببرامج قصيرة المدى قادرة على تجاوز التمايز في البيئة التعليمية.
الطبقة الثالثة وهي الأهم استراتيجياً، تتعلق بنموذج التمويل والشراكات. من الوهم الاعتقاد أن موازنة الدولة وحدها، في ظل الظروف الاقتصادية الحالية، قادرة على تمويل نقلة نوعية في رواتب المعلمين والبنية التعليمية. الحل الواقعي هو فتح المجال المنظم أمام ثلاثة مسارات متوازية: أولا، تشجيع المدارس الخاصة لتتبنّى مدارس في المناطق الأشد احتياجاً القريبة منها وتعمل حملات دعم لها. ثانيا، تشجيع مبادرات المجتمع المدني المحلية، لكن ضمن إطار وطني منظم، لا عشوائية كاملة. يمكن على سبيل المثال أن تتكفل قرية أو حي أو رابطة مغتربين من أبناء المنطقة بدعم رواتب معلمي مدرسة بعينها أو تمويل بدلات إضافية أو دعم اللوجستيات عبر صندوق تديره لجنة من لدعم التعليم من الأهالي، على أن يتم ذلك بعقود واضحة عبر وزارة التربية أو مجالس التعليم المحلية، لضمان العدالة والشفافية وعدم خلق فجوات جديدة بين المدارس. ثالثا، فتح المجال لشراكات مع منظمات دولية ومانحين، بحيث تكون أولويتها في التعليم هي دعم المعلم وليس فقط ترميم الأبنية وتوزيع الحقائب المدرسية.
من المهم التأكيد أن إشراك المجتمع المحلي في دعم رواتب المعلمين لا يعني تخلي الدولة عن مسؤولياتها، بل العكس، فإن هذا التوجه يحتاج إلى إدارة قوية من الدولة تمنع تحول الأمر إلى منّة أو إلى نفوذ اجتماعي على المدرسة والمعلم، وتضمن أن كل مبادرة أهلية أو مدنية تصب في استراتيجية وطنية واضحة للتعليم. هنا يصبح دور القيادة التربوية في سوريا فاعلاً إذا إننا بحاجة إلى أشخاص استثنائيين في قمة الهرم التربوي لا يديرون فقط العام الدراسي بل يديرون انتقال التعليم من مرحلة ما بعد الصراع إلى نموذج جديد، أكثر عدالة ومرونة واستدامة. إدارة التعليم ما بعد الأزمات تتطلب عقلية تخطيط استراتيجي، وإدارة مخاطر، وقدرة على بناء شراكات، وليس فقط إصدار تعاميم إدارية.
وإذا أرادت سوريا الجديدة أن تبني مستقبلها على أسس متينة، فعليها أن تبدأ من المعلم، بوصفه أهم أصل استراتيجي تمتلكه. ودعم المعلّم ماديا ومهنيا واجتماعيا سيقلل من حدة التفكك الاجتماعي بين المناطق، ويرفع مستوى الاستجابة المجتمعية للسياسات العامة، ويعيد الثقة بين المواطن والدولة في أكثر نقاط الاحتكاك اليومية حساسية أي المدرسة. فحين يتقاضى المعلم أجرا لائقا ويحظى باحترام واضح ويتلقى تدريبا مستمرا، يصبح قادراً على أداء دوره الحقيقي كمهندس لإعادة بناء الإنسان السوري بعد الثورة. أما الاستمرار على الوضع الحالي، فهو وصفة مؤكدة لإعادة إنتاج الصراعات نفسها بعد بضع سنوات، ولكن بثوب جديد.