منذ تأسيسها، لم تعرف سوريا سيادة سياسية مكتملة المعالم. كانت دائماً دولة وظيفية أكثر منها وطنية بالمعنى العميق للكلمة، أي أنها أدت وظائف سياسية وأمنية لصالح منظومات خارجية كالاتحاد السوفييتي أو نخب ضيقة، مع بعض الاستثناءات. فبعد سلسلة الانقلابات العسكرية، ثم وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1963، دخلت البلاد مرحلة طويلة من تأميم الدولة لمصلحة الحزب. ومع مرور الوقت، تحول الحزب إلى سلطة فوق الدولة، ثم تحول النظام إلى سلطة فوق الحزب، حتى غابت السياسة تماماً من المجال العام.
في ظل هذا الإرث، جاءت الثورة السورية لتعيد طرح أسئلة جوهرية: هل يمكن لسوريا أن تؤمم سياستها في عهدها الجديد؟ وهل يمكنها دخول تحالفات متناقضة دون إملاءات خارجية؟ وهل يمكن لجميع أطياف الشعب السوري المشاركة في الحياة السياسية؟ ومن يحق له أن يقرر اتجاه الدولة ومستقبل هويتها؟
هنا تبرز الحاجة إلى مشروع وطني أسميه عادة "تأميم السياسة"، والمقصود به إعادة السياسة إلى أصحابها الحقيقيين، إلى السوريين، بحيث تصبح السياسة ملكاً عاماً، وتغدو سوريا قادرة على المناورة السياسية مع المجتمع الدولي بحرية واستقلالية أكبر.
الإحصاءات الدولية والبيانات الرسمية تظهر عمق الانسداد الذي عاشته الحياة السياسية في سوريا خلال العقود الماضية. فبحسب تقرير فريدوم هاوس لعام 2024، جاءت سوريا في المرتبة الأخيرة تقريباً بين دول العالم بدرجة (1 من 100) في مؤشر الحريات. كما احتلت المرتبة (177 من أصل 180) في مؤشر مدركات الفساد الصادر عن الشفافية الدولية، ما يعكس تماهي الفساد مع النظام السابق. أما على مستوى التعددية، فقد كانت الأحزاب تعمل ضمن بيئة مغلقة خاضعة للوصاية الأمنية أو صورية لا تعمل أصلاً. هذه الأرقام شاهد على غياب السياسة كمجال مدني حر، وعلى احتكارها من قبل بنية سلطوية مغلقة فصلت بين الدولة والمجتمع.
من هنا تأتي أهمية تأميم السياسة كجوهر لمشروع سوريا الجديدة. فتحرير الأرض لا يكتمل إلا بتحرير السياسة من التبعية، والدين من التوظيف، والمجتمع من الخوف. فسوريا لا يجب أن تبقى رهينة لمصالح أي قوى خارجية، وعلى صعوبة ذلك في المرحلة الراهنة، إلا أنه ممكناً إذا ما جرى هندسة الأولويات بشكل سليم. والمطلوب إسقاط العقلية السياسية القديمة التي أنتجت منظومة الاحتكار وعبادة الفرد والتعامل مع الوطن كغنيمة. تأميم السياسة يعني أن تعاد ملكية القرار الوطني، عبر دستور عصري، وتشريعات تراعي أفضل المعايير المحلية والدولية، وهيئة انتخابات مستقلة، وإعلام نزيه. هذا من جانب، ومن جانب آخر إعادة هندسة التموضعات السياسية وارتباطاتها الخارجية على أساس المصلحة السورية أولاً، وتأمين أمن الحدود والسيادة الوطنية الكاملة ثانياً.
وفي هذا السياق، تكتسب فكرة ما بعد الإسلاموية أهمية خاصة في البناء السياسي لسوريا الجديدة. فالتجربة الإسلامية السياسية في العقود الماضية، داخل سوريا وخارجها، أثبتت حدودها التاريخية، إذ تحولت من حركة قيمية إلى مشاريع لم يكتب لها النجاح. ولا العلمانية، ولا كذلك الأفكار القومية، يجب أن تهيمن على المجتمع. إنما المطلوب هو ما بينهما، نهج يجمع كل هذه المختلفات، ويجعل من الاختلاف تنوعاً. هذا هو المسار الذي يفتح المجال أمام الجميع للمشاركة في بناء الدولة على أساس المواطنة الجامعة. وبالتالي من الضروري تحرير الدين من التوظيف السياسي، وإعادته إلى فضائه الطبيعي كقوة أخلاقية مجتمعية تسهم في تشكيل الوعي للمجتمع السوري، خصوصاً أن سوريا في معظمها بيئة محافظة. بهذا المعنى، يصبح الدين مكوناً للهوية الثقافية لا أداة للنفوذ السياسي.
تأميم السياسة في سوريا الجديدة لا يمكن أن يتحقق إلا بإعادة بناء مفهوم الهوية الوطنية الجامعة. فقد عانت البلاد طويلاً من انقسام الهويات بين قومية ودينية وعلمانية، بينما غابت الهوية السورية الجامعة التي تعترف بالتنوع دون أن تقسّمه. الهوية الوطنية الجديدة يجب أن تقوم على المواطنة الكاملة، بحيث يكون الانتماء إلى سوريا هو الرابط الأسمى الذي يجمع الكردي والعربي، المسلم والمسيحي، السني والعلوي، الدرزي والشيعي، العلماني والمتدين. هذه الهوية الجامعة هي الأساس الذي يعيد للسياسة معناها الوطني.
وفي هذا الإطار، يتوجب على الأحزاب أو الكتل السياسية المزمع الإعلان عن تأسيسها في الفترة المقبلة، أياً كان توجهها، أن تقدم خطاباً خدمياً ووطنياً بمعنى الكلمة. ولم يعد مقبولاً أن تستمر الكتل والنخب السياسية في تقديم خطاب شعاراتي يقوم على الأيديولوجيا أو العقيدة، بينما المواطن السوري يبحث عن كهرباء وماء ووظيفة ومدرسة ومستشفى. السياسة في سوريا الجديدة يجب أن تقاس بقدرتها على تحسين حياة الناس، لا بعدد شعاراتها أو لافتاتها. الحزب الذي لا يملك خطة واقعية لمعالجة الفساد، وتوفير الخدمات، وتحريك الاقتصاد، وبناء الثقة بين الدولة والمجتمع، أو خطة لمكافحة التصحر والجفاف، لا يمكن اعتباره حزباً وطنياً مهما رفع من شعارات.
التحرر من النظام لا يعني القطيعة مع التاريخ، بل البناء عليه بوعي نقدي. فكما فشلت القومية المغلقة في بناء دولة ديمقراطية، فشلت الإسلاموية السياسية في إقامة نظام دولة نموذجية. أما الطريق الثالث الذي تفتحه مرحلة ما بعد الإسلاموية، فهو طريق للمصالحة بين الدين والمدنية. إنه مسار يقوم على فكرة تشكيل هوية جامعة لكل السوريين.
إن سوريا الجديدة، التي تتشكل اليوم من رماد الحروب ومن إرث نصف قرن من الاستبداد، بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد يجعل من السياسة مجالاً مشتركاً لا ميداناً للمنازعة. تأميم السياسة هنا يعني حماية هذا المجال من كل احتكار، سواء باسم الدين أو القومية أو الأمن. فالحرية لا تكتمل إلا عندما يصبح المواطن شريكاً في القرار، لا موضوعاً له. ومن هنا تأتي قوة الحكومة التي تستمد شرعيتها من الشعب، فتتمكن من هندسة تنازلاتها، إن لزم الأمر، في أي حوار دولي، وترسم مستقبل قدراتها الدفاعية والاستراتيجية، فتكون الدولة محل احترام إقليمي ودولي. وهذه ليست لغة مثالية لجذب القراءات، بل رؤية صعبة التنفيذ لكنها ليست مستحيلة، رغم التحديات الكثيرة وأبرزها العربدة الإسرائيلية والجشع الأمريكي، إلا أن السياسة الواعية هي التي تدرك كيف تتجاوز الصعاب عبر أولويات عقلانية ومصالح وطنية واضحة.
فإذا نجحت سوريا الجديدة في أن تجعل من السياسة ملكاً عاماً، ومن الدين قيمة أخلاقية اجتماعية، ومن الهوية جسراً لا جداراً، فإنها تكون قد بدأت الطريق الحقيقي نحو السيادة والكرامة والعدالة. عندها فقط يمكن القول إن سوريا لم تتحرر من النظام فحسب، بل تحررت من فكرة الدولة الوظيفية إلى دولة وطنية جامعة تستمد قوتها من شعبها، لا من وصايتها.