سوريا بعد الثورة: إسلامية أم مدنية؟

بعد سقوط نظام البعث في ديسمبر 2024، دخلت سوريا مرحلة جديدة تماماً، فرضت سؤالا ً مهماً حول هوية الدولة: هل ستكون إسلامية أم مدنية؟

ولأول مرة منذ الاستقلال، لم يكن هذا السؤال مجرد نقاش نظري في هامش السياسة، بل تحوّل إلى معطى عملي بعد إسقاط نظام الاستبداد، وانقسام البلاد إلى مناطق متمايزة. ووصلت إلى الحكم سلطة ذات خلفية دينية، ما عزز حضور الطرح الإسلامي بقوة، في المقابل خرجت شخصيات بعد التحرير بفترة قصيرة تطالب بدولة مدنية، تقوم على مبادئ المواطنة والديمقراطية والفصل بين السلطات.

غير أن المشكلة لم تكن فقط في اختلاف الطروحات، بل في غياب بنية حزبية وطنية واضحة قادرة على إدارة هذا النقاش وتحويله إلى مشاريع سياسية. فطيلة عقود، افتقرت سوريا إلى أحزاب وطنية حقيقية تمثل الإرادة العامة، وتطمح بتقديم خدماتي وتنموي كما حال الكثير من البلدان وتعبر بالوقت نفسه عن التنوع الاجتماعي والديني والإثني في البلاد. ونتيجة لذلك، ظل سؤال الهوية بلا إجابة معيارية واضحة، وهذا مرده للإرث الذي خلفه النظام البائد خلال الفترة الماضية إذا جعل من التموضع السياسي جرماً يدفع من يطالب به حياته.

وفي هذا السياق جاءت خطبة الجمعة التي ألقاها الشيخ بلال أسامة الرفاعي بتاريخ 25 تموز/يوليو 2025 في أحد مساجد دمشق، تحت عنوان: “بين المشروع السياسي الإسلامي ومشروع المواطنة"، لتكون الحجر التي حركت مياه النقاش الراكدة في هذه المواضيع، وخاصة أنها صدرت من مرجعية دمشقية لها تاريخ عريق في العمل السياسي الإسلامي.”.

في هذه الخطبة، وبعد عقود من الصمت والخوف نتيجة قمع نظام الأسدين تم إثارة هذا التساؤل المهم حول موقع الإسلام من الدولة، وما إذا كانت المواطنة بديلاً عملياً عن المشروع الإسلامي التقليدي، وهو ما أثار نقاشاً واسعاً بين مؤيد اعتبر الخطبة اجتهاداً وطنياً ناضجاً، وبين ناقد رآها انزلاقاً نحو خطاب يضع الإسلام في موضع تنازل.

لكن الأهم في هذه الخطبة، أنها أعادت فتح السؤال الحقيقي الذي نحتاج إلى معالجته بجرأة ومسؤولية:

هل يمكن أن نعيد بناء دولة سورية بهوية مزدوجة إسلامية في قيمها، ومدنية في نظامها السياسي؟

في ظل هذا الانسداد، يمكن أن يشكّل مفهوم “ما بعد الإسلاموية” مدخلاً مهماً لفهم وتطوير نموذج سوري جديد. هذا المفهوم لا يدعو إلى إلغاء الإسلام السياسي، ولا إلى تكرار النماذج العلمانية الصلبة، بل يقترح إطاراً مركباً يدمج بين القيم الإسلامية والحداثة المدنية.

وهو نموذج يقدّم الإسلام كمرجعية أخلاقية وروحية، دون أن يتحوّل إلى نظام حكم شمولي، ويمنح في الوقت ذاته المواطنة والديمقراطية مركزية قانونية تضمن العدالة والمساواة. بهذا المعنى، لا تعود “الإسلامية” و”المدنية” نقيضين، بل عنصرين قابلين للدمج ضمن صيغة ذكية، تحفظ هوية المجتمع، وتمنع الإقصاء لأي طرف.

لقد نجحت تركيا –ولو جزئياً– في توظيف هذا النوع من التركيب، حين دمجت بين الهوية الإسلامية للمجتمع التركي، والإطار المؤسسي للجمهورية الحديثة. وعلى الرغم من التحديات والانتقادات التي طالت التجربة التركية، إلا أنها أثبتت أن التوفيق بين المرجعية الدينية والنظام المدني ممكن، بشرط وجود إرادة سياسية ناضجة ومجتمع مدني فعّال.

وسوريا بكل تعقيداتها، ليست أقل أهلية لصياغة نموذجها الخاص، شريطة أن يعاد بناء المجال السياسي على أسس التعددية، والشفافية، وحرية التنظيم..

وتحديد هوية الدولة السورية بعد الثورة يجب ألا يكون صراعاً صفرياً بين الإسلاميين والعلمانيين، بل فرصة لإنتاج صيغة وطنية راشدة، تعيد وصل ما انقطع بين الدين والمواطنة، وبين الهوية والعدالة، وبين الروح الحضارية والمؤسسة الدستورية.

وهذا يتطلب من الجميع: حكومة، ونخباً وحركات سياسية، وفاعلين اجتماعيين، أن يغادروا خنادق الإقصاء، ويتبنوا نهجاً اجتهادياً عقلانياً يليق بتضحيات السوريين وآمالهم، ويؤسس لهوية سورية جامعة تعلي من شأن الإنسان كقيمة وكرامة… لا كهويّة فقط.