خلال كتابتي لأطروحة الدكتوراه، والتي تناولت فيها الفساد كأحد أهم العوامل المهمة التي دفعت الشعب السوري إلى الثورة، أدركت أن ما عاشته سوريا كان نظاماً مبرمجاً من الفساد البنيوي، متغلغلاً في مؤسسات الدولة من القمة إلى القاعدة. فقد كان السوري يعلم أن أي معاملة، مهما كانت بسيطة، لا يتم انجازها إلا برشوة أو واسطة. وقد لخص أحد القضاة السوريين هذه الحالة حين قال: من يدفع أكثر يربح القضية، في إشارة صريحة إلى أن العدالة تحولت إلى سلعة، والحق إلى مزاد.
هذا الواقع تراكم عبر عقود من الحكم المطلق الذي استخدم الفساد أداة للضبط والسيطرة. ففي مؤشر مدركات الفساد لعام 2010 أي قبل اندلاع الثورة بعام واحد حصلت سوريا على 25 من 100، واحتلت المرتبة 127 من أصل 178 دولة. وعلى المستوى الإقليمي كانت في المركز الخامس عشر بين دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بدرجة 2.5 من 10، وهو تصنيف وضعها ضمن الدول الأكثر فساداً في العالم. لقد كانت هذه الأرقام بمثابة إشارات إنذار مبكر لانفجار اجتماعي وسياسي وهذا ما حصل بالفعل في العام 2011.
وقبل الثورة روّج النظام لما سماه حينها التحرير الاقتصادي، لكنه في الحقيقة كان تحريراً للفساد من أي قيد قانوني. فخلال السنوات التي سبقت الثورة، كما يذكر الباحث الأمريكي ستيفن هايدمان في مقال له أنه جرى تأسيس طبقة جديدة من رجال الأعمال المرتبطين مباشرة بمراكز القوة الأمنية والحزبية، تحكمت في السوق والمناقصات واحتكرت الواردات والصادرات. وبينما كانت الشعارات الرسمية تتحدث عن تحديث الاقتصاد، كان الواقع يشهد على ولادة طبقة ريع سياسي، تملك رأس المال والقرار معاً. وقد وصف أحد الباحثين تلك المرحلة بأنها خصخصة للفساد، إذ أصبحت الرشوة جزءا من آلية إدارة الدولة.
وفي الحياة اليومية، تحولت الرشوة إلى ما يشبه الضريبة الإلزامية غير المكتوبة. تشير تقارير محلية إلى أن دفع المبالغ التسهيلية كان مطلوباً في كل شيء، من تسجيل سيارة إلى فتح دكانة صغيرة بل وحتى من البسطات الجوالة. وبالتالي تراجعت الطبقة الوسطى وازدادت الفجوة بين النخبة والشعب، وفقد الشعب ثقته بالدولة وبمبدأ العدالة.
أحد المعلقين كتب على فيسبوك قبيل اندلاع الثورة: من دون واسطة أو رشوة، سنتوقف عن العيش في سوريا. جملة تختصر شعور جيل كامل بالاختناق. وهكذا فقد كان الفساد البنيوي أحد أهم الأسباب المباشرة التي دفعت السوريين إلى الثورة عام 2011، بحثاً عن الحقوق المسلوبة.
وتتعدد أشكال الفساد في سوريا، وتعكس عمق الخلل الإداري والمؤسسي الذي يطال مختلف مفاصل الدولة. فالفساد هنا ليس رشوة أو محسوبية فقط، بل شبكة من التجاوزات المنظمة تشمل معظم القطاعات الحيوية: الفساد الصحي الذي يلتهم الموازنات والمساعدات عبر التلاعب بالمشتريات والأدوية، والفساد المالي في إدارة الإيرادات العامة والضرائب، والفساد الإداري في الصفقات الحكومية والعقود العمومية التي تمنح بالمحاباة لا بالمنافسة. كما يبرز الفساد في الإدارة المحلية، حيث تتحول البلديات والمجالس إلى مراكز نفوذ شخصي بدل أن تكون أدوات تنمية حقيقية، في ظل ضعف الرقابة على المشاريع الخدمية والبنى التحتية. ومن أخطر أشكال الفساد في الوقت الراهن ما يمكن وصفه بـالفساد البيئي، إذ يجري التغاضي عن مخالفات تلوّث المياه والهواء، والتعدي على الغابات والأراضي الزراعية، واستنزاف الموارد الطبيعية دون رقابة أو تخطيط، ما يفاقم التصحر ويزيد من تأثيرات التغير المناخي.
إن ضعف الإدارة البيئية يضاعف الخسائر التنموية ويحوّل الريف السوري إلى منطقة طاردة للحياة. وتشير تقارير دولية إلى أن الفساد عالمياً يتخذ أكثر من 120 شكلاً بين رشوة، اختلاس، تضارب مصالح، إساءة استخدام السلطة، واستغلال المنصب العام، مما يجعل مكافحته معركة مستمرة تتطلب نهجًا مؤسسياً شاملاً يربط بين النزاهة الإدارية والحوكمة البيئية والمسؤولية الاجتماعية للدولة.
وبين عامي 2012 و2024، لم يتغير المؤشر سوى للأسوأ. ففي آخر تصنيف لمنظمة الشفافية الدولية قبل التحرير، حصلت سوريا على 12 من 100 فقط، لتحتل المرتبة 177 من أصل 180 دولة، أي ضمن الدول الثلاث الأكثر فساداً في العالم إلى جانب جنوب السودان والصومال وفنزويلا، بينما كان المتوسط العالمي عند 43 نقطة.
لكن المشهد تغير بعد التحرير، إذ وجد السوريون أنفسهم أمام فرصة حقيقية لإعادة بناء دولة مختلفة، تبدأ بإغلاق بوابات الفساد وفتح نوافذ الشفافية. وأعلنت القيادة الجديدة بوضوح أن مكافحة الفساد أصبحت سياسة دولة. في هذا السياق، شدّد الرئيس أحمد الشرع خلال اجتماعه مع مسؤولين حكوميين على أن من أهم العوامل التي تنفر المستثمرين هو مزاحمتهم في السوق من قبل المسؤولين الحكوميين أنفسهم.
وأكّد الشرع على ضرورة الفصل بين المسؤولية العامة والاستثمار الخاص، معتبراً أن تضارب المصالح هو أخطر أشكال الفساد لأنه يدمر الثقة بالسوق ويشل بيئة الأعمال. كما أوضح أن المسؤولين الذين يمتلكون استثمارات أو مشاريع سابقة يجب أن يخضعوا لإشراف حكومي مباشر، مع الإفصاح الكامل عن أنشطتهم أمام الجهات الرقابية المختصة.
وأضاف أن اللقاءات بين المسؤولين والمستثمرين ينبغي أن تتم داخل المكاتب الحكومية فقط، حتى نحمي القرار الاقتصادي من أي شبهة تأثير أو استغلال. هذه التصريحات تمثل تحولاً مهما في الفلسفة الاقتصادية السورية الجديدة، إذ تنقل العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص من منطق النفوذ إلى منطق الشفافية والشراكة.
ومع أن الطريق لا يزال طويلاً، فإن المؤشرات الأولية مشجعة. فوفق تقرير البنك الدولي الصادر في سبتمبر 2025، ارتفع مستوى ثقة المواطنين بالمؤسسات الحكومية في سوريا الجديدة إلى 38% بعد أن كان لا يتجاوز 11%. كما شهدت البلاد تحسناً طفيفاً في مؤشر الشفافية المالية وفق تقييم مبادرة الموازنة المفتوحة، إذ قفزت درجتها من 12 إلى 28 من 100 في عام واحد تقريباً، وهي زيادة تعد الأعلى في المنطقة لهذا العام.
ومن مشاركتي في اجتماعات الأمم المتحدة الخاصة بتنفيذ اتفاقية مكافحة الفساد 16 المستأنفة لعام 2025، ضمن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، تأكد لي أن مكافحة الفساد لا تقوم على القوانين وحدها، بل تحتاج إلى إرادة سياسية صادقة، ومجتمع مدني فاعل، وتشريعات عصرية عادلة، وبنية قانونية مستقلة قادرة على تطبيق مبدأ سيادة القانون على الجميع دون استثناء، والإصلاح الحقيقي يبدأ من الوقاية لا من رد الفعل، ومن الشفافية اليومية لا من الشعارات العامة.
وتظهر التجارب المقارنة أن التحول من دولة فاسدة إلى دولة نزيهة ليس مستحيلاً. فجورجيا بعد ثورة الورود عام 2003 رفعت درجتها من 18 إلى 56 نقطة خلال عشر سنوات، لتقفز من المرتبة 124 إلى 41 عالميًا عام 2022، بفضل إصلاح شامل لجهاز الشرطة والقطاع العام. أما رواندا، التي خرجت من جحيم الإبادة عام 1994 بدرجة لم تتجاوز 25 نقطة، فقد سجلت 53 نقطة في 2024، بفضل إنشاء محاكم خاصة بالفساد وتفعيل مبدأ الثروة غير المبررة. في المقابل، تعد سنغافورة المثال الأقوى على نجاح طويل المدى، إذ حافظت على درجة 84 من 100 في مؤشر 2024، بفضل نظام رقابة مؤسسي صارم ورواتب مرتفعة للموظفين العموميين.
هذه التجارب تؤكد أن الإرادة السياسية، والرقابة المؤسسية، والشفافية الرقمية هي المثلث الذهبي لأي إصلاح حقيقي. وإذا نجحت سوريا في رفع درجتها إلى حدود 30–35 نقطة خلال السنوات الخمس المقبلة، فإنها ستخرج من خانة نظام الدول الفاشلة إلى خانة الدول قيد الإصلاح، وهو انتقال كفيل بإعادة الثقة للمستثمرين المحليين والدوليين، وبتحريك عجلة الإعمار على أسس سليمة.
إن معركة السوريين اليوم ليست سياسية فقط، بل هي مؤسسية في عمقها. فالثورة التي بدأت من أجل الكرامة والعدالة لا تكتمل إلا بدولة تقدس النزاهة وتحاسب الفاسد حتى لو كان قوياً. وإذا كانت سوريا قد فتحت بعد التحرير بوابات جديدة ومارست نمطاً مختلفاً من الحكم والإدارة، فإن نجاحها في ترسيخ هذه الممارسات هو ما سيحدد إن كانت الثورة قد أنجزت أهدافها فعلاً. فدولة العدالة هي وحدها التي تعيد للسوريين ثقتهم بأنفسهم وتغلق إلى الأبد صفحة الفساد التي مزقت البلاد.