في مشهد سياسي يحمل بين طيّاته أبعاداً إقليمية ودولية، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال زيارته إلى المملكة العربية السعودية في 13 أيار 2025 عن قرار بلاده "رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا"، مشيراً إلى أن هذه الخطوة تأتي في إطار تسوية شاملة ترعاها الرياض وتهدف إلى إعادة إعمار البلاد وتحقيق استقرار طويل الأمد في الشرق الأوسط. غير أن هذا الإعلان ـ رغم وقعه السياسي ـ أثار على الفور موجة من التساؤلات القانونية والواقعية: هل يمتلك ترامب فعلاً الصلاحية القانونية لإلغاء هذا النوع من العقوبات المعقدة؟ وهل يشكّل هذا القرار، إن نفّذ، مدخلاً حقيقياً لتعافي الاقتصاد السوري والخروج من آثار الحرب المدمرة؟
لفهم أبعاد هذه الخطوة، لا بد من العودة إلى جذور العقوبات الأمريكية على سوريا، والتي لا تقتصر على ما بعد الثورة، بل تمتد إلى نهاية سبعينيات القرن الماضي، حين اتّخذ قرار إدراج سوريا ضمن قائمة "الدول الراعية للإرهاب" في كانون الأول 1979، نتيجة دعمها لحركات المقاومة الفلسطينية. ترتب على هذا التصنيف فرض حظر شامل على تصدير الأسلحة والمساعدات الاقتصادية، وعزل سوريا عن النظام المالي العالمي.
لاحقاً، أقرّ الكونغرس الأمريكي في أيار 2004 ما عرف بـ"قانون محاسبة سوريا" بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، الذي فرض قيوداً مشددة على الصادرات الأمريكية، واستهدف قطاعات استراتيجية أبرزها النفط والطيران، إلى جانب فرض قيود على حركة الدبلوماسيين السوريين داخل الأراضي الأمريكية.
ثم جاءت الثورة السورية عام 2011 لتدفع بالولايات المتحدة نحو تصعيد غير مسبوق في العقوبات، كان أبرزها "قانون قيصر" الذي أقر عام 2019، ويعدّ الأشد قسوة في تاريخ العلاقات السورية الأمريكية. هذا القانون لا يستهدف فقط النظام السوري، بل طال كل من يتعامل معه من دول أو شركات أو أفراد، وشمل أكثر من 70% من القطاعات الاقتصادية، بما في ذلك الطاقة والبناء والقطاع المصرفي. كما جُمدت أصول أكثر من 129 شخصية وكياناً اقتصادياً مرتبطاً بالنظام السوري.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل يملك رئيس الولايات المتحدة، منفرداً، صلاحية رفع هذه العقوبات؟
الجواب القانوني يتفاوت حسب نوع العقوبات:
أولاً، العقوبات الرئاسية التي صدرت بموجب أوامر تنفيذية، مثل الأمر التنفيذي رقم 13894 المتعلق بسوريا، يمكن نظرياً إلغاؤها بمرسوم رئاسي جديد، دون الحاجة إلى موافقة الكونغرس.
ثانياً، العقوبات التشريعية، مثل "قانون قيصر" و"قانون محاسبة سوريا"، فهي قوانين صادرة عن السلطة التشريعية، ولا يمكن للرئيس الأمريكي تجاوزها دون موافقة الكونغرس، ما قد يجعل إلغاءها عملية سياسية تواجه بعض التحديات ومحل تجاذبات حزبية.
ثالثاً، العقوبات المرتبطة بتصنيف الإرهاب، كإدراج سوريا في قائمة "الدول الراعية للإرهاب"، تتطلب من وزارة الخارجية الأمريكية تقديم تقرير يثبت أنّ الدولة المعنية لم تعد تدعم التنظيمات المصنفة "إرهابية"، وهذ يعد ضمن صلاحيات الحكومة التي يرأسها.
ويواجه الازدهار الاقتصادي السوري في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد تحديات جسيمة، تعدّ العقوبات المفروضة أحد أبرز معوّقاتها. فبحسب بيانات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2024، يعيش أكثر من 90% من السوريين تحت خط الفقر، فيما بلغ سعر صرف الدولار في بعض الفترات 15,000 ليرة سورية، مقارنة بـ47 ليرة فقط قبل انطلاقة الثورة. وتشير تقارير البنك الدولي إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تقارب 73% منذ عام 2011، بينما تُظهر إحصاءات اليونيسف أن أكثر من 3.5 مليون طفل سوري باتوا خارج العملية التعليمية. أما الفقر الغذائي، فقد بات يطال أكثر من 70% من السوق السورية، في صورة تعكس عمق التدهور المعيشي الذي خلّفته سنوات العزلة والانهيار المؤسساتي.
من هذا المنطلق، فإن إعلان ترامب ـ رغم دلالاته السياسية ـ لا يمثل نهاية للعقوبات الأمريكية، بل يمكن اعتباره نقطة انطلاق لحوار معقد وطويل الأمد بشأن مستقبل العلاقة بين واشنطن ودمشق، وما إذا كانت هذه العلاقة ستنتقل من الخصومة إلى الشراكة الاستراتيجية.
لكن الأهم، أن رفع العقوبات، بحد ذاته، لا يعدّ كافياً لتجاوز تركة ثقيلة من الحصار، ما لم يترافق مع إصلاحات داخلية جذرية تعيد الاعتبار للقانون، وتُفعّل بيئة آمنة للاستثمار والتنمية. فلا ازدهار حقيقي دون معالجة ملفات بقيت معلّقة لعقود: من إنهاء حالة الشيوع العقاري، إلى تصفية قضايا الاستملاك العشوائي، وصولاً إلى تحديث منظومة التشريعات العقارية، وتقديم ضمانات سيادية تفتح الباب واسعاً أمام رؤوس الأموال السورية والعربية والدولية.
ومع كل هذه التحديات، نبقى على قدر من التفاؤل، لأن سوريا اليوم لا تقف وحيدة، بل تتحرّك بثقة على خط تأسيس تحالف شرق أوسطي جديد، تشارك فيه قوى إقليمية صاعدة كتركيا والمملكة العربية السعودية. هذا التموضع الجيوسياسي يمنح سوريا موقعاً نوعياً يعيد لها مكانتها، ويفتح أمامها آفاقاً جديدة لتكون نواة لتكتل إقليمي فعّال، يعيد رسم التوازنات، ويعيد توزيع الأدوار في منطقة تتغيّر بسرعة غير مسبوقة.
إن عودة سوريا إلى مكانها الطبيعي لا تعني فقط استعادة الدولة لعافيتها، بل تعني عودة مجتمع غني بتنوعه العرقي والثقافي والحضاري إلى الفعل التاريخي. تعني انبعاث اقتصاد جديد يستند إلى طاقات بشرية شابة، وإلى موقع جغرافي استراتيجي، وانفتاح ذكي على العالم. إنها لحظة تأسيس ما بعد الثورة، لحظة عبور نحو ما بعد العزلة وما بعد التبعية، نحو سوريا التي تستحق أن تكون فاعلاً إقليمياً وشريكاً حقيقياً في صناعة المستقبل.