السياسة الخارجية في سوريا الجديدة: من الاصطفاف الأحادي إلى بناء التوازنات

انفوغراف سوريا مع اسم الكاتب خاص السوري اليوم
انفوغراف سوريا مع اسم الكاتب خاص السوري اليوم

حين نتحدث اليوم عن “سوريا الجديدة” فإننا لا نعني بذلك تغيير نظام سياسي فحسب، بل إعادة صياغة موقع الدولة في النظام الدولي. السياسة الخارجية باتت تحمل سمات مختلفة عن العقود الماضية، حيث يظهر زخم عال في إعادة بناء العلاقات الدبلوماسية من جديد، وكأنها ترسم وفق ما يمكن أن نسميه “هندسة السياسة الخارجية”. تسعى دمشق إلى تصميم شبكة أكثر توازنًا في علاقاتها، مع توظيف أدوات القوى الناعمة عبر الاستثمارات والتعليم والإعلام لتشكيل رافد إضافي لدورها الخارجي.

طوال أكثر من نصف قرن، اقتصرت السياسة السورية على اصطفاف أحادي مع المعسكر الشرقي، بدءاً من الاتحاد السوفييتي وصولاً إلى روسيا. هذا الخيار حدّ من الحركة الدبلوماسية وأضعف الانفتاح على محاور إقليمية ودولية أخرى. أما اليوم تبدو الصورة مختلفة: انفتاح على الخليج في ملفات الطاقة والاستثمار، استمرار العلاقة مع موسكو على أساس براغماتي جديد، حوار مع الولايات المتحدة حول مكافحة الإرهاب وإعادة هيكلة المؤسسات فضلاً عن الاستثمارات، إلى جانب بحث عن جسور مع الاتحاد الأوروبي في قضايا اللاجئين وإعادة الإعمار، إضافة إلى فتح صفحة تعاون استراتيجي غير مسبوقة مع تركيا.

الفارق الجوهري أن السياسة الخارجية السورية لم تعد تدور في فلك محور واحد، بل تحاول رسم دور إقليمي مستقل قائم على التوازن لا على الارتهان. هذا التوازن قد لا يكون مكتملاً بعد، لكنه يمثل خطوة نوعية في كسر احتكار العلاقات الذي حكم دمشق لعقود. وفي هذا السياق، ووفق ما صرح به الرئيس أحمد الشرع للإخبارية موخراً فإن التموضع السياسي في المرحلة الراهنة سيكون على أساس مصلحة سوريا أولاً، موكداً أن العلاقات الدولية يجب أن تُبنى على الاحترام المتبادل والاستفادة من جميع الأطراف. ويأتي التعاون الاقتصادي مع روسيا، مثل اتفاقيات الطاقة والنفط، في هذا الإطار: تعاون يقوم على المصلحة المشتركة لا على التبعية كما كان في السابق.

من جانبه، شدد وزير الخارجية أسعد الشيباني مرات عديدة على أن الهدف الأساسي للسياسة السورية الخارجية هو المساهمة في خلق وضع إقليمي ودولي يقوم على التعاون المشترك والاحترام المتبادل والشراكات الاستراتيجية، مضيفاً أن سوريا تعطي أولوية خاصة لروابطها العربية وتعمل على تعزيز علاقتها بجوارها المباشر. هذه التصريحات تعكس انتقال السياسة الخارجية من منطق الاصطفاف إلى منطق بناء الشراكات.

إلى جانب ذلك، تحاول سوريا الجديدة استخدام السياسة الخارجية كأداة لإعادة الشرعية الدولية والانخراط في المنظمات الأممية، مع الالتزام بالاتفاقيات الدولية مثل ملف الأسلحة الكيميائية. كما تسعى لتوظيف الدبلوماسية الاقتصادية لجذب الدعم والاعتراف، وتفعيل أدوات القوى الناعمة عبر برامج التعليم والمبادرات الإنسانية والاستثمارات، لخلق صورة مختلفة للدولة وفتح قنوات تواصل مع الشعوب لا مع الحكومات فقط.

إن السياسة الخارجية السورية اليوم تستحق أن تدرس من منظور جديد، بعيداً عن المعايير التقليدية التي حكمتها لعقود. فهي سياسة في طور التشكّل، تسعى إلى التوازن بين الشرق والغرب، وإلى إعادة تعريف دور دمشق كفاعل إقليمي يستند إلى المصالح المشتركة لا إلى التبعية. وإذا أحسنت إدارة هذا التموضع، فإن القوى الناعمة والتعليم والثقافة والمساعدات الإنسانية يمكن أن تشكل العمق المستدام لدور سوريا في محيطها والعالم.