أعلنت الرئاسة السورية في 12 مارس 2025 عن تشكيل مجلس الأمن القومي بموجب قرار رئاسي أصدره الرئيس السوري أحمد الشرع، وذلك في خطوة تزامنت مع بدء لجنة تقصي الحقائق أعمالها في الساحل وما تبعها من الإعلان الدستوري. يتألف المجلس من وزراء الدفاع، والداخلية، والخارجية، إلى جانب مدير الاستخبارات وعضوين استشاريين وعضو تقني، وآلية عمل المجلس ستُحدد بتوجيهات مباشرة من رئيس الجمهورية، لضمان التنسيق الفعّال بين المؤسسات.
تكمن أهمية هذا الخبر في توقيته وتركيبته؛ فهو يأتي في لحظة حساسة من التاريخ السياسي والأمني السوري، وسط تحديات داخلية وخارجية متفاقمة، ومحاولات متكررة لإعادة ضبط آليات الحكم واتخاذ القرار بعد سنوات من الصراع. كما أنه يمثل تحولاً مؤسسياً يحمل في طياته دلالات على تغيّر في هيكل السلطة، وربما توجهات جديدة في التعامل مع الملفات الأمنية والسياسية.
فبعد سقوط نظام الأسد، دخلت سوريا مرحلة انتقالية معقدة تتسم بفراغ في أغلب مؤسسات الدولة، خاصة الأمنية منها. هذا التحول الجذري أثار تساؤلات حول كيفية إعادة بناء جهاز أمني وطني قادر على مواجهة التحديات الراهنة وضمان استقرار البلاد وحفظ حريات وحقوق الشعب السوري.
وكما هو معلوم فقد شهدت سوريا خلال الأربعة عشر عاما الماضية صراعا مزّق بنى الدولة الأساسية، وحوّل البلاد إلى ساحة صراع دولي بالوكالة، تداخلت فيها أجندات خارجية معقدة. فعلى الرغم من إعلان الحكومة السورية الجديدة عن استعادة السيطرة على معظم الأراضي السورية، إلا أن الواقع الميداني يُظهر استمرار التوترات والاشتباكات في عدد من المناطق، أبرزها الشمال الشرقي، إلى جانب مناطق في الغرب والجنوب.
وتتفاقم تداعيات هذا الواقع الأمني مع تصاعد أنشطة التهريب، وازدياد حوادث الاختطاف، وانتشار السلاح بيد غير الدولة، وتنامي نفوذ بعض المجموعات التي وجدت في هذا التفكك المؤسسي والفراغ التنظيمي تربةً مثالية لإعادة التمركز والتوسع، وخاصة فلول النظام.
وفي ظل غياب التنسيق الفعّال بين المؤسسات الأمنية والعسكرية والمدنية، يبقى الأمن في سوريا عرضة لتقلبات خطيرة، تتجاوز مجرد فقدان السيطرة على الأرض إلى تهديد بنيوي لأسس الدولة ذاتها. وعلى الرغم من انه تم بناء جهاز استخباراتي جديد لمواجهة هذه التحديات الا أنه قائم على بنك معلوماتي فارغ وهو ما يؤثر سلباً بشكل كبير على فاعليته كأهم جهاز في فاعلية الدول.
من هنا، برزت الحاجة الملحّة لإعادة بناء منظومة أمن قومي موحدة، تكون قادرة على تجاوز الانقسامات، وضبط إيقاع المؤسسات المتناثرة ضمن رؤية استراتيجية شاملة، وهو ما حاولت الرئاسة السورية الاستجابة له من خلال تشكيل مجلس الأمن القومي، ليكون خطوة أولى نحو إعادة الإمساك بمفاتيح الاستقرار الداخلي، وإعادة ثقة الشعب بمؤسسات الدولة.
وضمن هذا السياق، تبدو الخطوة المتمثلة بتشكيل مجلس الأمن القومي محاولة لإعادة ضبط الفوضى الأمنية وتوحيد الرؤية الاستراتيجية، في ظل واقعٍ صعب بات يتسم بعدم قدرة المركز على إدارة الأطراف بشكل كامل. فقد أشار تقرير معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي (SIPRI) إلى أن ما يقارب 70% من البنية التحتية الأمنية في سوريا قد تعرضت للتدمير. هذا المشهد المعقد والمتداخل يعكس أحد أكثر المنعطفات خطورة في تاريخ سوريا الحديث، ويضع على عاتق المجلس الوليد مسؤولية كبيرة في رسم خريطة طريق للخروج من الأزمة الأمنية، عبر بناء منظومة وطنية منسقة تستجيب لتحديات الداخل وتعقيدات الخارج.
توازيًا مع التحديات الأمنية المتفاقمة، تواجه سوريا أزمة سياسية بنيوية تتجلى في هشاشة بعض المؤسسات السياسية، وقد شهدت المرحلة تطورًا لافتًا قد يحمل في طياته ملامح تحوّل محتمل في المشهد السياسي، تمثل في توقيع الرئيس السوري أحمد الشرع، على مسودة "الإعلان الدستوري"، في خطوة وُصفت بأنها تسعى إلى إرساء معالم "سوريا الجديدة". وتكتسب هذه الخطوة رمزية مهمة على التزام الدولة بوحدة الأرض والشعب، مع احترام الخصوصيات الثقافية، وضمان الحقوق والحريات، وذلك في محاولة لتحقيق توازن بين متطلبات الأمن المجتمعي وضمان الحريات الأساسية، وهي مفاهيم ظلت غائبة أو ضعيفة الحضور في الممارسات السياسية للنظام السابق.
ورغم أن التوقيع على مسودة الإعلان لا يعني بالضرورة تحولًا جذريًا باتجاه الديمقراطية الكاملة، فإنها تشكل نقطة انطلاق لعملية إعادة هيكلة تدريجية في آليات الحكم، إذا ما أُتبعت بإصلاحات حقيقية تعزز المشاركة الشعبية، وتفتح المجال أمام قوى المجتمع المدني والنخب السياسية الجديدة للمساهمة الفعلية في اتخاذ القرار. غير أن الحكم على جدية هذا المسار يظل رهينًا بمدى التزام القيادة الجديدة بتطبيق مضامين الإعلان على أرض الواقع، ومدى ترجمتها إلى سياسات واضحة تعكس روح التعددية والشفافية والعدالة.
في هذا السياق، فإن الربط بين تأسيس مجلس الأمن القومي وتوقيع الإعلان الدستوري قد يوحي بوجود محاولة لتأسيس معمار سياسي-أمني جديد، يُراد له أن يوازن بين الحاجة إلى ضبط التحديات الأمنية، والانفتاح على إصلاح سياسي يُعيد ثقة الشعب بمؤسسات الدولة. ومع ذلك، فإن التجربة السورية الطويلة تحثّ على توخي الحذر، ومتابعة هذا التطور بمراقبة دقيقة، لا سيما في ما يتعلق بمدى استقلالية مؤسسات الدولة، وآليات تنفيذ ما ورد في الإعلان، وضمان عدم تحوّله إلى مجرد وثيقة رمزية تفتقر للأثر العملي.
إن النظرة المتأنية إلى تشكيلة مجلس الأمن القومي السوري تعكس مقاربة مدروسة في اختيار الأعضاء، ما يوحي برغبة السلطة الجديدة في تحقيق توازن بين الوظائف المختلفة ذات الصلة بالأمن القومي. فالمجلس لا يقتصر على العناصر الأمنية التقليدية، بل يشمل تمثيلًا وزاريًا ودبلوماسيًا وتقنيًا، إضافة إلى مستشارين، ما يمنحه صفة تعددية نسبية مقارنة ببنية القرار التقليدي في سوريا.
وجود وزير الدفاع، على سبيل المثال، يضمن أن المؤسسة العسكرية الوطنية ممثلة في صلب القرار السيادي. إلى جانبه، يشكّل وزير الداخلية صلة الوصل مع الأجهزة الأمنية المدنية، وتحديدًا تلك المعنية بالأمن الداخلي ومراقبة التحركات على الأرض. أما وزير الخارجية، فحضوره يُعد مؤشرًا على إدراك السلطة لأهمية ربط الأمن القومي بالبعد الدبلوماسي، خاصة في ظل التحديات الإقليمية والدولية التي تواجه سوريا. فالأمن لم يعد محصورًا داخل الحدود، بل هو جزء من لعبة العلاقات الدولية، وحضور الخارجية يفتح المجال أمام مقاربات أوسع في تقييم المخاطر والفرص. وفي المقابل، يشكّل مدير الاستخبارات "اليد الخفية" في المجلس، فهو غالبًا صاحب النفوذ الأكبر بحكم اطلاعه الواسع على تفاصيل الدولة العميقة، وارتباطه المباشر بشبكات النفوذ الداخلي والخارجي.
انطلاقًا من المعطيات السابقة، أرى ضرورة ترسيخ مبدأ التنسيق المؤسسي بين الأجهزة العسكرية والأمنية من جهة، والمؤسسات السياسية والدبلوماسية والمدنية من جهة أخرى، كإحدى ركائز السلطة السياسية في المرحلة القادمة. فالقيادة الجديدة قد قدّمت نموذجًا ناجحاً خلال سنوات الثورة – ولو في ظروف استثنائية – في إدارة المناطق التي كانت تحت سيطرتها من خلال آليات تنسيقية فعّالة بين مختلف القطاعات، ولا سيما بين المؤسستين المدنية والأمنية.
إن البناء على هذه التجربة وتعزيزها في مرحلة إعادة التشكل السياسي والأمني يمثل خطوة جوهرية نحو نظام أكثر كفاءة واستقرارًا. لأن غياب مظلة وطنية واحدة تنظم العلاقات بين الجيش، والاستخبارات، والوزارات السيادية، والدبلوماسية، سيخلق بيئة إدارية هشّة. فلكل جهة أمنية صلاحيات ميدانية واسعة، وقدرة على التأثير المباشر في القرار السياسي، لذلك يجب أن تخضع تلك التحركات لتخطيط استراتيجي موحّد. مع ضرورة لتفعيل قدرات المؤسسات المدنية ليصبح لها قدرة فعلية على التأثير في المسارات الأمنية أو السياسات العليا، وتجاوز حصر أدوارها في التلقّي أو الأداء الرمزي، الأمر الذي سيخلق تشابكاً فعالاً بين الأجسام الحكومية المختلفة.
في الختام، يمكن اعتبار المجلس بمثابة "منصة لإعادة هندسة السيادة السورية من الداخل"، من خلال تقليص النفوذ الفوضوي لبعض مراكز القوى، وتعزيز الطابع المؤسسي للقرار السياسي. إلا أن هذه العملية محفوفة بالمخاطر، لأنها قد تفتح الباب أمام مقاومة داخلية، أو منافسات بين النخب على النفوذ والصلاحيات، ما لم تُحسن إدارتها بدقة وحذر. لذلك، فإن النجاح في توظيف المجلس يعتمد على قدرته على التحرك سريعًا، والاستفادة من خبراته المتنوعة، وقراءة المشهد المحلي والإقليمي بدقة، وخلق آليات استباقية للأزمات، وليس فقط التعامل مع نتائجها.