تجاهل أوروبي صارخ للوضع في سوريا يُجبر اللاجئين على العودة إلى وطن ما زال يحتاج وقتاً لحصول الاستقرار
في الوقت الذي لا تزال فيه سوريا تغوص في أتون تحديات أمنية وإنسانية هائلة بعد أكثر من عقد من الحرب والدمار، وتصاعد الحديث عن المرحلة الانتقالية بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، تشهد العواصم الأوروبية موجة متزايدة من الدعوات لترحيل اللاجئين السوريين إلى بلادهم، في خطوة أثارت جدلاً واسعًا حول مدى واقعية وفهم هذه الدول للوضع الأمني المتفجر في الداخل السوري.
هشاشة الوضع الأمني في سوريا.. واقع لا يُستهان به
رغم انتهاء حكم الأسد، تبقى سوريا بعيدة عن تحقيق الاستقرار الذي يضمن عودة آمنة للاجئين الذين فروا من الموت والفقر والدمار. ما تزال البلاد تشهد انفلاتًا أمنيًا واسع النطاق، مع وقوع تفجيرات وهجمات طائفية متكررة في عدة مناطق، من الساحل السوري إلى دمشق، حيث استهدف هجوم انتحاري مؤخراً كنيسة مار إلياس الأرثوذكسية، ما أسفر عن سقوط عشرات القتلى والجرحى، في تذكير مأساوي بما عاشه السوريون خلال سنوات الحرب.
تشير بيانات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين إلى أن أكثر من 90% من السكان ما زالوا بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، في ظل وجود 7.4 ملايين نازح داخلي يعيشون في ظروف مزرية، مع نقص حاد في الخدمات الأساسية، ما يجعل فكرة العودة “الآمنة والكريمة” مجرد حلم بعيد المنال.
الدعوات الأوروبية للترحيل: تجاهل أو حسابات سياسية؟
رغم هذه المعطيات الميدانية الصعبة، اتخذت عدة دول أوروبية مواقف صارمة حيال اللاجئين السوريين. ألمانيا والنمسا وهولندا أوقفت فحص طلبات اللجوء بناءً على فرضية تحسن الظروف الأمنية في سوريا، وبدأت بعض هذه الدول عمليات ترحيل قسرية، في خطوة أثارت انتقادات واسعة.
وفي حين تدعي هذه الحكومات أنها تستند إلى معايير أمنية وإدارية، يؤكد مراقبون أن هذه السياسات تعكس ازدواجية خطاب أوروبي يراعي مصالحه السياسية الداخلية أكثر من الواقع الأمني المعقد في سوريا. فاللاجئون السوريون في أوروبا، والذين يناهز عددهم المليون في ألمانيا وحدها، لم يأتوا هربًا من الرغد، بل فروا من الموت والفقر والاستبداد.
دور تركيا وروسيا: ركيزتان في دعم الاستقرار
في مواجهة هذا الواقع المعقد، برزت تركيا وروسيا كلاعبين أساسيين في محاولات استعادة الاستقرار في سوريا. روسيا، التي حافظت على تحالف قوي مع دمشق، تواصل دعمها عبر تدريب القوات الأمنية المحلية وتأمين مناطق معينة مثل قاعدة حميميم التي تحولت إلى ملاذ نسبي في مواجهة موجات العنف الطائفي التي طالت الساحل السوري.
من جانبها، تلعب تركيا دورًا محوريًا في المسار السياسي والأمني، حيث تمتلك نفوذًا ميدانيًا هامًا على الفصائل المعارضة السابقة. وأكد الرئيس السوري أحمد الشرع على أهمية التعاون مع أنقرة وموسكو لضمان استقرار البلاد، مع الحفاظ على سيادتها الوطنية. وتهدف هذه التحركات إلى إعادة بناء جيش وطني قادر على حماية المدنيين وتوحيد المؤسسات الأمنية، وهو ما يشكل حجر الزاوية لبيئة آمنة تسمح بعودة اللاجئين.
أزمات حقوقية وأخلاقية.. مأزق اللاجئين بين مطرقة الترحيل وسندان الوطن
بينما تتجه أوروبا إلى تشديد إجراءات اللجوء وترحيل السوريين، تحذر المنظمات الدولية من أن هذه السياسات تعرض آلاف الأشخاص للخطر، في انتهاك واضح للمواثيق الدولية التي تحظر إعادة اللاجئين إلى مناطق غير آمنة. اللاجئون الذين فروا من القصف والاضطهاد يجدون أنفسهم اليوم مضطرين للاختيار بين البقاء في دول تواجه ضغطًا سياسيًا متزايدًا، أو العودة إلى وطن لا يزال يعاني من الانفلات الأمني والفقر المدقع.
خاتمة: العودة ليست قرارًا إدارياً.. بل مسؤولية دولية
تؤكد الوقائع أن عودة اللاجئين السوريين لن تتحقق إلا بوجود بيئة مستقرة وآمنة تضمن كرامتهم وحياتهم، وهذا يتطلب دعمًا دوليًا حقيقيًا لجهود الاستقرار بقيادة الحكومة السورية وشركائها الإقليميين، وعلى رأسهم تركيا وروسيا، بدلاً من المضي قدمًا في سياسات ترحيل متسرعة وغير مدروسة.
في النهاية، فإن تجاهل الواقع الأمني في سوريا، والضغط على اللاجئين للعودة إلى بلادهم في ظل ظروف غير آمنة، لا يُعد فقط خطوة غير إنسانية، بل يُعرض حياة الآلاف للخطر، ويعكس ازدواجية مؤلمة في الخطاب الأوروبي تجاه واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية المعاصرة.