بعد أكثر من عقد على اندلاع الثورة السورية، وما تبعها من دمار وتشظٍ وفقدان لأبسط مقومات الدولة، بدأت سوريا الجديدة تخطو خطواتها الأولى في سبيل ترميم مؤسساتها، لا بوصفها مجرد هياكل إدارية، بل بوصفها أدوات لبناء وطن. وطن نحلم فيه بدولة قانون، لا دولة شعارات.
ولأن الدولة لا تُبنى فقط بالبندقية أو الشعارات، جاءت الحاجة إلى كفاءات إدارية ومهنية قادرة على ترجمة المفاهيم الثورية إلى خدمات يومية للمواطن. مفارقة موجعة برزت هنا: كل من انخرط في هذه المؤسسات من أبناء الثورة – وخصوصاً من الإعلاميين والناشطين – وجد نفسه فجأة موضع اتهام، يوصم بالتطبيل أو بالخيانة لمجرد قبوله وظيفة حكومية.
فهل باتت الوظيفة في الدولة الجديدة تهمة؟ أم أننا عجزنا عن التمييز بين من يخدم الناس، ومن يتسلق على أوجاعهم؟
من ساحات التظاهر إلى مقاعد المسؤولية
عدد من الوزراء والمسؤولين اليوم جاؤوا من رحم الثورة أو النشاط المدني، وقرروا أن يخوضوا غمار العمل الرسمي، لا طمعاً بمناصب بل التزاماً بمشروع بناء الدولة.
وزير الطوارئ مثلًا، كان أحد أبرز العاملين في المجال الإنساني قبل أن يتسلم منصبه. الدكتورة هند قبوات، وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل، كانت ناشطة في دعم المرأة والطفل. أما وزير الاتصالات عبد السلام هيكل، فقد جاء بخبرة تقنية ومكانة مرموقة من الخارج.
وحتى حاكم مصرف سوريا المركزي، عبد القادر حصرية، عاد من رئاسة مؤسسات مالية دولية ليمارس دوره الوطني مستخدمًا خبراته.
هؤلاء – وغيرهم كثير من الأطباء والمهندسين والخبراء – لم يعودوا بدافع طموح شخصي، بل بدافع وجداني، إنساني، ووطني. تركوا الاستقرار والمكاسب ليكونوا جزءًا من محاولة شاقة لبناء وطن من الصفر.
تضحيات لا تُحتسب بالأرقام
هؤلاء الموظفون لا يتقاضون رواتب عالية، بل في كثير من الأحيان لا يتقاضون شيئًا على الإطلاق لأشهر متتالية. أحد الموظفين الإداريين في حلب رفض عرضًا من منظمة دولية بأجر يفوق راتبه بعشرة أضعاف، قائلاً: "مشكلتي مو المال. مشكلتي إنو بلدي بحاجتي".
يدخل هؤلاء إلى بيئة لا توفر الحد الأدنى من الحماية، ولا تمنحهم الدعم أو الاحترام، بل يُطلب منهم العمل تحت ضغط كبير وتوقعات هائلة، بينما تُفتح عليهم نيران النقد من كل اتجاه.
"لأنك موظف، يعني أنك خنت الثورة"
التحول من ناشط إلى موظف لم يكن سهلاً. أحد الإعلاميين البارزين الذين تولوا منصبًا إداريًا مؤخراً قال:
"الناس بتفكر إنك صرت موظف يعني سكّرت عيونك وصرت تطبّل. بالعكس، أنا اليوم بقدر أشتغل من جوّا، وأوصل صوت الناس بطريقة فعالة".
لكن الواقع أن الكراهية تغلب على النقد. في غياب إعلام مستقل، وبرلمان منتخب، وأحزاب حقيقية، باتت وسائل التواصل ساحة لمحاكمة مفتوحة. الكل متهم، إلى أن يثبت العكس.
الفارق بين من عاد ليبني... ومن عاد ليقطف
الوجع الشعبي مبرر، لكن لا يجوز وضع الجميع في سلّة واحدة. من عاد إلى سوريا ليبني ويعمل ويصلح، يستحق الدعم لا الطعن. هؤلاء عادوا بدافع الاشتياق، لا الطموح، وبذلوا جهدًا في مواجهة إدارات وأمزجة ومناخات لا تشبههم. تحمّلوا الحصار والاتهام، وأحياناً حتى لوم ذويهم، فقط لأنهم آمنوا بأن سوريا تستحق المحاولة.
الفرق كبير بين من عاد حاملاً مشروع إصلاح، ومن عاد حاملاً حقيبة الصفقات والولاءات. هؤلاء لا يُدافع عنهم أحد، ولا يدخلون في هذا الحديث.
حتى لا تُهزم الدولة الوليدة من داخلها
السؤال الذي يفرض نفسه: إلى متى يمكن لهؤلاء أن يصمدوا؟ تدنّي الأجور، غياب الصلاحيات، فقدان الاستقلالية، كلها تحديات يومية. والأخطر أن صمودهم الفردي قد لا يكفي. فإن انسحب هؤلاء، لن يجد الحالمون بدولة جديدة من يمثلهم في الداخل، وستُترك المؤسسات لقوى الشدّ العكسي، والعلاقات الشخصية، وأصحاب الصوت العالي.
فهل نترك الميدان مجددًا للمتسلقين؟ أم ننصف من يحاول بناء الوطن بصمت؟
كلمة أخيرة...
الوظيفة ليست تهمة، ما لم تكن وسيلة للظلم أو التربح. والنقد واجب، إن كان وعيًا لا تصفية حساب.
الدولة التي نحلم بها لن تُبنى بالشتائم ولا بالتخوين، بل بالكلمة الصادقة، باليد النظيفة، وبالمؤسسات التي تضع المواطن أولًا.
ولأن الوطن لا يبنيه "الفدائيون" وحدهم، لا بد أن تتوزع التضحية على الجميع.
إن لم نُساند من عاد طواعية، وعمل بإخلاص فربما لا يعود غيرهم لاحقًا، ولربما استعاد الفاسدون مواقعهم شيئا فشيئا ..
لنجعل بوصلتنا واضحة، ونحشد الدعم والتأييد للمخلصين ونراقب الخطأ ولنرفع الصوت بالنصيحة لا الشتيمة، فسوريا تحتاج كل واحد منا، وهناك الكثير من الخبرات السورية تتهيأ للدخول إلى حلبة البناء، فلنفسح لها الطريق.