زيارة الوفد الروسي إلى سوريا: فصل جديد أم انسحاب من المشهد ب "كرامة"؟

بوغانوف والشرع
بوغانوف والشرع


شهدت دمشق، يوم الأربعاء، زيارة مهمة لوفد روسي رفيع المستوى برئاسة ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي ومبعوث الرئيس فلاديمير بوتين إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. جاءت هذه الزيارة في وقت حساس للغاية، حيث تخوض سوريا مرحلة انتقالية بعد تشكيل إدارة جديدة تتطلع إلى إعادة بناء علاقاتها الخارجية وفق رؤية جديدة. فهل تشكل هذه الزيارة بداية فصل جديد في العلاقات بين البلدين أم أنها تعكس بداية انسحاب روسي "بكرامة"؟

ركزت المباحثات بين الوفد الروسي والإدارة السورية على قضايا حساسة ومفصلية، من أبرزها آليات العدالة الانتقالية، وضمان المساءلة لضحايا الحرب، وسبل إعادة بناء الثقة بين موسكو والشعب السوري. وأكدت الإدارة السورية الجديدة على أن استعادة العلاقات مع روسيا يجب أن تعالج أخطاء الماضي وتحترم إرادة الشعب السوري، في إشارة واضحة إلى رغبتها في إعادة صياغة هذه العلاقة وفق أسس جديدة.

كما تناولت المحادثات مستقبل الوجود العسكري الروسي في سوريا، إذ أشارت المصادر إلى أن الإدارة السورية طالبت موسكو بوضع جدول زمني واضح للانسحاب التدريجي للقوات الروسية، بما يتماشى مع مطالب الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة برفع العقوبات عن سوريا. وتم التطرق إلى إمكانية عودة العلاقات العسكرية إلى ما كانت عليه خلال حقبة حافظ الأسد، حيث تقتصر التسهيلات الروسية في ميناء طرطوس على عمليات الصيانة والتزود بالوقود، دون أي وجود عسكري دائم.

إضافة إلى ذلك، أشارت مصادر مطلعة إلى أن الإدارة السورية قد تطالب بتعويضات عن الانتهاكات التي مارستها القوات الروسية في سوريا، مؤكدة أنه لا بد لروسيا من التكفير عما اقترفته من جرائم بحق الشعب السوري. كما أن زيارة بوغدانوف في هذا التوقيت تعكس محاولة موسكو لجس النبض، وإلا لكان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف هو من قاد الوفد بنفسه.

ويرى بعض المحللين أن موسكو، التي لعبت دورًا حاسمًا في تثبيت أركان النظام السوري خلال السنوات الماضية، باتت تبحث عن مخرج يضمن لها الحفاظ على نفوذها في المنطقة دون الانخراط المباشر في الصراع السوري. في هذا السياق، قد يكون ما يجري هو بمثابة "انسحاب بكرامة"، بحيث تحافظ روسيا على مصالحها الاقتصادية والعسكرية من خلال التعاون في مجالات محددة مثل إعادة الإعمار والتعاون التجاري والعسكري، دون أن تتحمل الأعباء السياسية والاقتصادية التي يفرضها الوجود العسكري المباشر.

بالمقابل، لا تزال روسيا بحاجة إلى دور في المشهد السوري لتحقيق توازن مع الغرب، وهو ما يجعل الحديث عن انسحاب كامل غير مرجح في الوقت الراهن. بل يبدو أن موسكو تحاول إعادة تموضعها بما يضمن استمرار نفوذها ولكن بأسلوب أكثر حذرًا وبراغماتية. ومع ذلك، فإن الأيدي الروسية ملطخة بدماء السوريين، وهو ما يجعل من الصعب على موسكو إعادة بناء الثقة بسهولة.

الملفات الشائكة: العقوبات والفساد والديون غير الشرعية

مع الاشارة الى تلطخ الايادي الروسية بالدم السوري ومشاركة القوات الروسية بقصف المدن والقرى السورية في الشمال وفي مناطق ادلب بالتحديد والهجوم على مواقع هيئة تحرير الشام في الشمال فإنهمن المنطقي أن المباحثاتتناولتهذا الجانب ومن المنطقي ان تكون قد تمت المطالبة بتعويضات للسوريين وبالاضافة إلى مسألة الوجود العسكري، حملت المباحثات بُعدًا اقتصاديًا وسياسيًا عميقًا، إذ طالبت الإدارة السورية بأن تقوم روسيا بتجميد وتسليم أموال عائلة الأسد وكبار الضباط التي تراها ناتجة عن الفساد والسرقات، وهو ملف قد يكون نقطة خلاف بين الطرفين. كما لم يتم التطرق إلى مصير بشار الأسد وعائلته، باعتبار أن هذا الملف بات من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، مما يشي بأن موسكو لا تزال تحاول النأي بنفسها عن تحمل مسؤولية دعم الأسد في المستقبل.

وعلاوة على ذلك، فإن الديون التي تثقل كاهل سوريا لروسيا هي في الواقع ديون لنظام ساقط، ولا يجب أن يتحملها الشعب السوري. بل على العكس، يجب على روسيا أن تدفع تعويضات للشعب السوري عن الدمار الذي تسببت فيه، قبل أن يتم فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين.

بالنظر إلى تعقيدات المشهد السياسي، يتضح أن الإدارة السورية الجديدة لا ترغب في الرهان فقط على روسيا، بل تسعى إلى تنويع خياراتها الدبلوماسية من خلال التفاوض مع الأوروبيين والأمريكيين، وإن كان ذلك محفوفًا بالمخاطر. فالغرب لن يمنح دمشق أي تنازلات دون مقابل، وسيلجأ إلى الضغط بملفات مثل حقوق الأقليات وإشراك المعارضة في الحكم، وربما استخدام "قسد" كورقة لتعزيز الانقسام الداخلي.

في هذا السياق، قد يكون أمام دمشق خيار الاستفادة من التجربة التركية في موازنة العلاقات بين القوى الدولية الكبرى، إذ نجحت أنقرة في بناء علاقات مرنة مع كل من روسيا والولايات المتحدة وحلف الناتو، وأتقنت فن المناورة وإعادة التموضع بين الجانبين بما يخدم مصالحها الاستراتيجية.

يبقى السؤال مفتوحًا: هل نشهد بداية فصل جديد من العلاقات الروسية-السورية يقوم على شراكة متوازنة؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه انسحابًا تدريجيًا تحاول موسكو من خلاله الحفاظ على ماء وجهها؟ الحقيقة أن الأيام القادمة ستكون حاسمة في تحديد ملامح هذه العلاقة، ولكن المؤكد أن دمشق أمام اختبار دبلوماسي صعب، يتطلب منها مهارة عالية في إدارة علاقاتها الخارجية، دون الوقوع في فخ الاستقطاب الدولي الذي قد يعرقل مساعيها للخروج من العزلة الدولية وإعادة الإعمار.