بعد ستة أسابيع على الأحداث المتسارعة ،وانهيار النظام المستبد الذي استمر أكثر من نصف قرن، وكشف المظالم المتعددة والهائلة التي عانى منها السوريون ، ارتفعت الأصوات تنادي بالعدالة والاقتصاص من الذين شاركوا في سفك الدم السوري ، وتثبيت حكم آل الاسد خلال العقود الخمسة الماضية .
وفي نفس الوقت ارتفعت أصوات تطالب بإعادة البناء في البلد المدمر والذي خسر 90% من بنيته التحتية ، وخسر موارده وكوادره ، وترهلت مؤسساته ،.
وعلى التوازي، ارتفعت أصوات تبحث في العقد الاجتماعي وتطالب بحماية التنوع والمكونات المتعددة في سوريا الجديدة..،
كل هذه المطالب محقة ،وملحة ، والطريق لتنفيذها "العدالة الانتقالية "..
تُعد العدالة الانتقالية في سوريا مسارًا حيويًا لضمان الانتقال من حالة الصراع المدمر إلى بناء دولة قائمة على سيادة القانون، والمواطنة، واحترام حقوق الإنسان. يتطلب هذا المسار إعداد خارطة طريق شاملة تركز على معالجة الماضي، تحقيق العدالة، والمصالحة الوطنية.
ومن المؤكد ان تلعب العدالة التصالحية في الحالة السورية بعد سقوط نظام بشار الأسد دورًا محوريًا في تعزيز السلم الاجتماعي، معالجة الانقسامات المجتمعية، وإعادة بناء الثقة بين مختلف الأطراف. نظرًا لتعقيد الصراع السوري وتعدد الأطراف المتأثرة، يجب تصميم آليات العدالة التصالحية بعناية لتناسب السياق السوري.ولتحقيق ذلك يجب السير ضمن خطى محكمة وجريئة على الرغم من التحديات الكبيرة التي تواجهها .
أولا - كشف الحقيقة:
• إنشاء لجنة حقيقة مستقلة: إنشاء لجان وطنية تمثل جميع مكونات الشعب السوري للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان والجريمة.
إن إنشاء لجان الحقيقة يتطلب إرادة سياسية قوية، تخطيطًا محكمًا، وتعاونًا مجتمعيًا. يجب أن تكون هذه اللجان جزءًا من عملية شاملة للعدالة الانتقالية تهدف إلى تعزيز السلام والمصالحة الوطنية.
وتكون مهمتها الاساسية :
o توثيق الانتهاكات والجرائم التي ارتكبتها جميع الأطراف خلال الصراع.
o تسليط الضوء على مصير المفقودين والمختفين قسريًا.
o تجميع شهادات الضحايا والشهود بشكل يحترم السرية وحقوق الإنسان.
تصدر هذه اللجنة تقريرا علنيا يتضمن التقرير الحقائق المكتشفة، المسؤولين عن الانتهاكات، وتوصيات للإصلاح.
• شفافية المعلومات:
o نشر تقارير دورية توضح النتائج والحقائق التي تم التوصل إليها.
o توعية المجتمع بتاريخ الانتهاكات لضمان عدم تكرارها.
ثانيا - المساءلة القانونية:
• محاكمات محلية ودولية:
o إنشاء محاكم خاصة أو مختلطة لمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
o التعاون مع المحاكم الدولية مثل المحكمة الجنائية الدولية.
• آليات العدالة التصالحية: ا
العدالة التصالحية تعتمد على المشاركة الفعالة بين الضحايا والجناة والمجتمع لتحقيق نتائج تتجاوز العقاب التقليدي، وتهدف إلى بناء مجتمع قائم على التفاهم، التسامح، والسلام. تُعد هذه الآليات أدوات فعّالة لضمان العدالة وجبر الضرر في مراحل الانتقال من النزاعات إلى السلم.
o تفعيل آليات تقبل الاعتراف بالجرائم والتوبة لتعزيز المصالح
ثالثا- جبر الضرر وتعويض الضحايا:
وذلك عبرالعمل في شقين بشكل متوازي :
الاول تصميم برامج تعويض مادي ومعنوي للضحايا، خاصة الذين فقدوا منازلهم أو تعرضوا للأذى الجسدي أو النفسي.
والثاني إصلاح المؤسسات العامة، مثل القضاء والأمن، لضمان عدم تكرار الانتهاكات.
وذلك بهدف معالجة الآثار المباشرة للصراع، واستعادة الثقة بالمؤسسات العامة.
ويمكن ان تتضمن هذه المرحلة :
o تقديم تعويضات مالية للضحايا أو عائلاتهم.
o تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للمتضررين.
o توفير الرعاية الطبية والنفسية للضحايا والمصابين.
o إعادة إدماج النازحين واللاجئين بشكل كريم وآمن.
رابعا - إصلاح المؤسسات:
• إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية والقضائية:
o تطهير الأجهزة الأمنية والقضائية من المسؤولين عن الانتهاكات.
o تعزيز استقلال القضاء لضمان العدالة.
• ضمان سيادة القانون:
o بناء مؤسسات تحترم حقوق الإنسان وتخدم الجميع دون تمييز.
خامسا - المصالحة الوطنية:
• تعزيز الحوار المجتمعي:
o تنظيم حوارات وطنية تشمل جميع المكونات السورية.
o الاعتراف بمظالم الماضي والعمل على تجاوزها.
• التسامح والاعتراف المتبادل:
o بناء جسور الثقة بين المجتمعات المحلية المختلفة.
o تعزيز قيم التسامح والتعايش السلمي.
سادسا - الحفاظ على الذاكرة الجماعية:
• إنشاء نصب تذكارية:
o تخليد ذكرى الضحايا من خلال نصب تذكارية أو مواقع للذاكرة.
• التوثيق التاريخي:
o جمع الوثائق والشهادات المتعلقة بالصراع وحفظها للأجيال القادمة.
سابعا - ضمان عدم التكرار:
• تعزيز التعليم المدني:
o تضمين مناهج تعليمية تركز على حقوق الإنسان والعدالة والسلام.
• آليات مراقبة مستقبلية:
o إنشاء هيئات رقابية لمتابعة تطبيق الإصلاحات وضمان استمرارية احترام حقوق الإنسان.
ويمكن أن يشكل غياب توافق سياسي حول عملية العدالة الانتقالية.استمرار النزاع وانعدام الثقة ،وانقسام الأطراف المعنية تحديا كبيرا للتطبيق العدالة الانتقالية ولكن الرغبة العارمة في طي صفحة الماضي والاتفات الى بناء سوريا جديد ترفل بالحرية والكرامة يساهم الى حد كبير في تجاوز التحديات الكبيرة في هذه المرحلة.
خارطة الطريق للعدالة الانتقالية في سوريا ،تتطلب صبراً وتعاونًا محليًا ودوليًا واسع النطاق لضمان معالجة إرث الانتهاكات ، وبناء مجتمع سوري قائم على العدالة والسلام.
إن تحقيق هذه الأهداف يتطلب أفقاً واسعاً ، وإرادة سياسية قوية، ودعما شعبياً واسعا ، ومشاركة من كل فئات المواطنين السوريين، مشاركة شعبية شاملة، كل حسب قدرته، وكل حسب موقعه، كما تتطلب التزامًا بمبادئ حقوق الإنسان، دون الانجرار وراء مشاعر الانتقام والثأر .