لا يُنصح بها لهواة قراءة الروايات الكلاسيكية، ولا لأصحاب القلوب الضعيفة أو النفوس المستكينة، ولا الماشين بجوار الحيط، ولا المفوِّضين أمورهم أو المانحين أصواتهم لغيرهم، لأنها غير مناسبة إلى حد الصدمة؛ بل حد الفاجعة لكل هؤلاء. أما ما تبقى من "بشر" أنهكتهم وساوس الوجود واستهلكهم الشغف بالكينونة فسيجدون زميلا ورفيقا "نموذجاً"، لكن عليهم الحذر وهم يتعرّفون عليه بين دفتي الرواية، ومن الصعوبة بمكان وربما مستحيل أن يعثر أحد من أولئك "البشر" على نفسه/ها أو ذاته/ها وهو/هي يـ/تقرؤها.
إنها صرخة نَزَقٍ مدوّية في "وادي الرتابة" تدعو لاستغلال كل لحظة بالاستمتاع بكل مفردات الحياة والكون وتفاصيلهما إلى الحد الأقصى، كما تفعل الفراشات لا كما يفعل النمل. ودعوة لتقدير الحياة؛ الحياة بمرّها قبل حلوها، بعد التخلص من الأحكام المسبقة حيال المرار بالرفض والنفور والزهد، ومنحِ المرار فرصة ليعبّر عن ماهيته ويدافع عن طبيعته، ومناقشته بموضوعية وحيادية فربما كان أولى من كل "الحَلا".
إنها مطاردة دؤوبة لحلم، وركض لا هوادة فيه نحو غاية، فالتوقف حتى لالتقاط الأنفاس يعني النهاية، النهاية المظلمة في غياهب الفناء، حتى التباطؤ لا معنى له إلا اليأس والقنوط، وهو مرض مهلك لا محالة وآخرته موت سريري أو غيبوبة لا فواق منها.
لا مكان للإشراق ولا الخيال في ثنايا وردهات هذه الرواية، حيث تلتصق كل الأحداث والشخصيات والكاتب والقارئ بالأرض، الأرض التي يخشى جميع منْ سبق أن تميد بهم. لكن ثمة إضاءات على مفردات الحياة وعناصرها، إضاءات غير مسبوقة ولغة غير معهودة تعطيها معاني جديدة تليق بها بعد فقدان أهميتها وانعدام قيمتها بفعل إهمالنا لها أو تعوّدنا عليها. كما الماء الذي أهمله، إلى حد بعيد، العلماء والشعراء والأطباء والفيزيائيين والكيميائيين لوفرته على سطح الأرض وباطنها فيما هو أهم وأثمن وأعقد جواهر وكنوز الكون كله.
ميزان عملاق شديد الحساسية دقيق القيمة نصبه الكاتب لكل الأشياء المهملة في حيواتنا ليرينا أهميتها ويوضح عبقريتها ويُثْبت فائدتها. "القيام من الفراش" بعد "الاستيقاظ" من "النوم"، "الخطوة"، "التثاؤب"، "التلويح باليد"، "فهم الآخرين"، "إفهام الآخرين".. معجزات تقع لنا كل يوم بل كل دقيقة من صحونا ورُقادنا. لكن ثمة بديهيات في المقابل محرمون منها ينبهنا إليها بطل الرواية ويصرخ بأعلى صوته مطالِبا بها كالحرية، مثلا، بل هي بديهية واحدة وأساسية ومصيرية، لكن للأسف، هيهات أن ينالها أحد "حيًّا"، وغالبا ولا ميتًا.
من سوء حظ بطل الرواية أنه لا يقاتل أو يناضل في ساحة معركة مكشوفة عدوًا محددًا مقدورة، وإنْ نظريًا، مواجهته أو مجابهته، بل إنه يحارب في ساحتين؛ ساحة واقع خارجي تضم أهله وناسه وكل من يمت إليه بصلة بما في ذلك صلة البشرية، وساحة افتراض داخلي تضم ذواتًا أو نفوسًا أو ضمائر متوازية لا علاقة بينها إلا أنها محشورة في عقله، عقله الذي اتسع خبرة وعلمًا ومعرفة وفلسفة إلى درجة أنه صار قابلا للقسمة بين عدة أشخاص يتشاركون جسدًا.
بدون أي تنويه بزمان أو مكان، وبدون أي توضيح أو تلميح لنعرف إن كان المروي عنه مُشعِرًا أم أمرد، يجيد السباحة أم يغرق بشبر ماء، متزوج أم فاته القطار، زوجته جميلة وشهية أم قبيحة وتسد النفس، وبدون أي تذويق أو تبريج أو هندمة.. بسردٍ "مُشَفّى" نعبر فجوات وثقوب زمانية، وندخل حيّزات مكانية لا على التعيين، ونغوص مباشرة إلى حيث الصدفة التي يجب فتحها قبل أن نغتنم منها درّتها ونلتهم محارها. وكأن الكاتب يعي تمامًا ضيق وقته ووقت القارئ وهشاشة شرايينه وشرايين القارئ فيدّخر وِسعه ووِسع قارئه لتلقي الصدمات والخيبات وعرض الرؤى والأفكار مباشرة بلا أي مُشتّتات كما رصاصة.
إنها رصاصة تُطلق من "مسدس صوت" لتعلن افتتاح سباق ماراثوني على مراحل بين ذوات نفسٍ واحدة أو نفوس ذاتٍ واحدة بحثًا عن سر الوجود الأندر "السعادة" أو كنز الحياة الأغلى "الحرية". كما أنها رصاصة "خطّاطة" يطلقها مستغيث موشك على الغرق في بحر لُجيّ طلبًا لنجدة، أو تائه مع رفاقه في غابة ليدلهم على المخرج بعد أن وجده أخيرًا. وهي أيضا "خلبية" فقط لتهدد كل ما استقر في الوجدان من قيم ونُظم بفتح تحقيقٍ يطال أصل وفصل كل المسلمات والبديهيات بحثًا مفقودات وضحايا على رأسهم الحرية والكينونة والذاتية، وفي العموم ليست رصاصة قاتلة ولا رصاصة طائشة.