تستحضر الثورة السورية في ذكراها العاشرة، مراجعاتها، فتختفي أسرارها وتحولاتها مع من رحلوا، أو ممن بقي منهم ويؤثر القول تجنبا لجراح متقيحة، ومساءلات قد تزيد من الشقاق ولا تدفع نحو الأفضل.
واحدة من أبرز محطاتها عامان على التسوية في الجنوب السوري، حين تخلى الأمريكي عن دوره ودعمه، فترك الجنوب لقمة سائغة بفم الروسي، فدمرت طائرته ما كان مستعص حتى الأمس القريب، فارضا تسوية بطعم الهزيمة، على قوى لم تكن موحدة، فسهل الإيقاع بقادتها ومحاصرة بلداتها، وقبول "جرعة السم" ولأول مرة يجد الجنوب وأبناءه بين تفاضل بين القوى التي قتلت حلمه في التغيير، مفاضلة المصالح الآنية على مبادئ الثورة السورية، فيقبل بالروسي ضامنا وقد كان قبلها" التسوية" عدوا، ويقاوم الإيراني وتوسعه عبر الانخراط والتبعية للروسي، ويطالب بالإفراج عن معتقليه في سجون الأسد، عبر بعض الاستعصاءات في جنوبه.
كنت تاركت صديقا خريج الاتحاد السوفيتي حينها، سألته ما الذي حال بينك والانخراط في التسوية، فتحمي ظهرك بالروسي، وتعود لعملك، وتساعد في التوسط والإفراج عن المعتقلين، وتقترب من مشهد التحولات الكبير؟
" من عاش حجم القصف الروسي، لا أبالك يصدق ما يجري، فهم العدو منذ بداياتها، وقد أتفهم أعذار القوى العسكرية والفصائل، لكن بالعموم مشهد الصدمة ما زال قاس، ربما احتاج سنوات قادمة حتى أعي ما يجري، وكيف ولماذا؟ مضيفا" لندع الزمن وحده يقول المشهد، ولن نقبل بشهادة زور ونحن أحياء".
منذ تموز 2018 توقيع التسوية سيشهد الجنوب تحولات دراماتيكية، يضع اللاعبون الاقليميون أوراقهم على الطاولة ويحضر اللاعب الدولي، فيما سنشهد حراكا بالجنوب للاعب المحلي، وهو ما سنعكس اغتيالات وترحيل وحصار وتمدد للايراني ثم تراجع وبروز قوى ذات ثقل ظاهرها الثورة السورية، وعمودها الفقري تحالف مع الروسي، سيغلق الجار الأردني بواباته الحدودية، ثم يفتحها ثم يطلب شؤوطا لفتحها، سيتدخل الاسرائليلي بضربات في عمق الجنوب لأصابة أهداف عدوه الايراني، وسيتشابك اللاعبون بكل ما يمثلونه على الأرض عبر قواهم فتغدو حوران ساحة اشتباك سورية عالمية.
بحسب مكتب توثيق الانتهاكات في (تجمع أحرار حوران) فمنذ تموز 2018 وحتى مطلع تموز 2020، سجل اكثر415 عملية ومحاولة اغتيال، أسفرت عن مقتل 285 شخصًا وإصابة 168 آخرين إصابات متفاوتة، لعناصر سابقين في فصائل المعارضة انخرطوا ضمن تشكيلات نظام الأسد بعد إجراء التسوية، و48 عمليّة استهدفت عناصر وقياديين سابقين في فصائل المعارضة لم ينخرطوا ضمن تشكيلات قوات الأسد، فيما تم توثيق 7 عمليات اغتيال استهدفت عناصر سابقين في تنظيم داعش، بعضهم انخرط في العمل مع مخابرات نظام الأسد". مؤشرات بدت شبه يومية في الساحة المفتوحة على مصراعيها، وهو ما دفع البعض لوصف ما يجري" حوران تغوص ببحر من الدماء لن يجف قبل تسوية سياسية شاملة للحالة السورية بعمومها، والتصفيات ستطال كل من كان له دور عسكري في المحافظة من قادة وعناصر الفصائل، هذا ما يريده الايراني ليتاح له التمدد والسيطرة،وهو ما يرغبه ويسعى إليه الأسد، لإخضاع الجنوب والسيطرة عليه مجددا، لكن بتقديري هذا أشبه بالمستحيل" يقول محمد العبدالله احد أبناء حوران.
العسكر جاثما على الأرض
كانت آمال التسوية تدفع أن ثمة ضامن روسي وبرقابة المجتمع الغربي بعموم ساسته إضافة للقوى الإقليمية المؤثرة في الساحة السورية، كما قدم الروسي " جزرة" الوعود باخراج المعتقلين، واجراء التسويات لعناصر الجيش الحر وضباطه سابقا، ووعود بعودة العسكر الى ثكانته فلا يتدخل بالحياة اليومية للناس، لكن " التسوية النظرية بقيت حبرا على ورق، فسمت قوات الاسد المحافظة الجنوبية بحواجز عسكرية، وبات المرور بين قراها وبلداتها أشبه بالسفر بين قارات العالم بجواز سفر منتهي الصلاحية، فزادت نسبة الاعتقالات بدل تراجعها، وبرزت الانتهاكات بشكل يومي ومتكرر، رصد جوانبها “تجمع أحرار حوران” بتوثيق 1144 عملية اعتقال قام بها نظام الأسد بحق أبناء محافظة درعا، منذ إبرام اتفاق التسوية في تموز 2018 وحتى تموز الحالي 2020، مع الإشارة من ذات التجمع لصعوبة توثيق بعض الحالات أو الوصول لمعلومات عنها بسبب الأوضاع الأمنيّة في المحافظة، إذ يمتنع عدد من أهالي المعتقلين الإدلاء بمعلومات عن أبنائهم لتخوّفات أمنيّة نظرًا للقبضة الأمنية التي تُحكمها مخابرات النظام في المحافظة.
ومع تدهور الحالة الأمنية وانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية والخدمية، استفاق اهل حوران على كابوس" التسوية" ليحصي مكتب التوثيق في “تجمع أحرار حوران” 83 حالة احتجاج سلميّة في عشرات المدن والبلدات بمحافظة درعا، طالبت بإسقاط النظام والإفراج عن المعتقلين وتبيان مصيرهم في سجون النظام، وطرد الميليشيات الإيرانية، ما يعتبر مؤشرًا أنّ المحافظة لم تجد في تلك التسوية ما تريده ولم تتحقق مطالبها حتى اللحظة.
خرائط السيطرة بعد التسوية
كشف واقع التسوية في المحافظة الجديدة عن مراكز سيطرة لم تكن سابقا، حيث تتقاسم أطراف الصراع السيطرة على هذه الجغرافية الاستراتيجية، فتبرز سيطرة فصائل المعارضة على أجزاء من مدينة درعا، أي درعا البلد وطفس، في الريف الغربي، تغيرت وقائعها بعد دخول حيش الاسد برعاية روسية وفرض تسوية بمدينة طفس وما حولها.
فيما يسيطر اللواء الثامن، التابع للفيلق الخامس، بقيادة أحمد العودة، على بصرى الشام، ويفرض سيطرته على المناطق القريبة.
كما يسيطر حزب الله على بعض مناطق اللجاة ومناطق ريف درعا الشرقي من خلال الميليشيات التي صنعها في تلك المناطق من أبناء القرى، وتشهد هذه المناطق بعض المواجهات، أو" كر وفر" بين الحواجز من جهة، وبين قوات العودة من جهة ثانية، فيما تطل بعض الفصائل في محاولة لفرض وقائع جديدة لكنها غالبا سرعان ما تختفي.
تشهد مناطق شمال درعا،والشمال الغربي التي تتصل بريف القنيطرة، أي الحارة وجاسم وإنخل، صراعا بين الأجهزة الأمنية السورية، بدعم من "حزب الله"، والفصائل السورية المنحلة التي لا تزال تعمل بنشاط في تلك المناطق، وهو ما يفسر بعض عمليات الاغتيال التي يشار اليها لاطراف محسوبة بارتباطها على قوات الأمن السوري، ليس آخرها ما شهدته مدينة جاسم.
الفرقة الرابعة المحسوبة بولائها للإيراني تسيطرعلى ريف درعا الغربي وحوض اليرموك، وهي منطقة محاذية للأردن وإسرائيل، وينشط "حزب الله" في هذه المناطق.
تتوزع السيطرة في القنيطرة وريفها بين قوات النظام السوري وأجهزته الأمنية و"حزب الله" الذي أسس ميليشيات محلية تتبع له.
الروسي متفردا بالجنوب
ليس مشهد مدينة "طفس" غرب درعا في الجنوب السوري, كسابقه قبيل " الاحتواء" الروسي، وهو يدلل في احد وجوه، لإشارات روسية باللغة الأهمية، باعتباره بات اللاعب المتفرد في كامل الجنوب السوري، رغم انزعاج الإيراني ورهانه الطويل على بعض أوراقه في حدود الجغرافيا الملتهبة.
أبرز رسائل الروسي في تسويته في مدينة" طفس" وقبلها عموم درعا والقنيطرة ب2018 ولاحقا السويداء، رسائل طمأنة لحليفه الإسرائيلي أولا، ولدول جوار الجنوب السوري وصولا للخليج العربي، ثم للمجتمع الدولي تاليا بقدرته على ضبط إيقاع أدوار وأحجام القوى المتصارعة في عموم الساحة السورية،والجنوب السوري صورة أقرب وأكثر وضوحا،فيما كانت رسالته الثالثة، لشركائه في التحالف ضد ما يسمونه " الإرهاب" الايراني والسوري، بالقول علنا، لا أدوار رئيسية لكم في التحولات" الدراماتيكية" ويمكن جبر "خواطركم" بهوامش أخرى من تقاسم " الكعكة" القادم، كما جاءت الرسالة الرابعة للمجتمع السوري بعمومه من خلال نموذج الجنوب السوري، أن الروسي وإن قتل بطائراته، لكنه الضمانة الأقرب لبعض مصالحهم "ووقف الاستنزاف والتهجير من مدنكم على يد بقية شركائي".
بهذه الرسائل المتفرقة، والمتضادة، لكل الأطراف المتصارعة، أنجز الروسي اتفاق مدينة " طفس" كما أنجز قبل سنوات اتفاق التسوية في عموم الجنوب السوري، وصولا لإنهاء حالة المواجهة التي سعى لها الجانب الايراني بين أبناء درعا والسويداء فأوقعت عشرات القتلى في المواجهات الأخيرة بين اللواء الثامن في بصرى الشام شرقا وقوات حليفة للإيراني في السويداء.
الايراني يخسر جنوبا فهل سيخسر في سورية
خسر النظام الايراني في أحد أهم محاوره في الجغرافيا السورية، ممثلة في الجنوب السوري، والذي راهن وعمل على تحويله مشابها" لجنوب لبنان" فأنشىء عشرات الجمعيات الخيرية، بهدف استقطاب أبناء المنطقة، وفتح باب التسويات العسكرية، شريطة الانضمام لقوات الفرقة الرابعة، أو الميلشيات التابعة مباشرة لحزب الله، او الفروع الأمنية المرتبطة به، وزج عشرات من قياديه وعناصره، بالقطع العسكرية المتواجدة في المحافظة، ونشطت أجهزته في الترويج للمخدرات عبورا وتعاطيا، ليأتي اتفاق طفس "الشعرة التي قد تقصم ظهر البعير" علنية الدلالة والتحول، فيما بدت قوات اللواء الثامن تحاصره شرقا، وتفضح أدواره، ليس آخرها ما كشف عنه مؤخرا، من كميات كبيرة من المخدرات كانت تعد للتهريب لدول الجوار السوري، واعترافات المقبوض عليهم بالتبعية لحزب الله ذراع الايراني في الأرض السورية، فيما يستمر رفض الجانب الأردني بفتح معبر نصيب الحدودي، مطالبا بتحمل مسؤوليات اكبر من الجانب السوري، في إشارة ترمي لرفضه أن يكون المعبر احد أدوات النظام الايراني.
ويرى مراقبون أن التواجد الإيراني في جنوب سوريا ـ درعا والقنيطرة والسويداءـ بدأ بالتراجع، نتيجة ضغوطاتٍ مارسها الجانب الروسي، والقوات المحلية المؤيدة له على الميليشيات المحسوبة على طهران والمدعّومة منها، إذ تم منع المجموعات المدعومة من طهران،من التمركز في أماكن جديدة بالمنطقة،وفصل نقاط أنتشارها عن بعضها البعض جغرافيا.ومراقبة حضورها من الأهالي، والجوار السوري، على حد سواء.
لا يمكن التسليم بقبول الايراني " بتحجيمه" بعد سنوات من القتال بجانب الأسد والروس على حد سواء، كما لا يقبل الشارع السوري بالروسي كحمامة سلام بعد طيرانه وتدمير المدن السورية، لكن الثابت ـ أقله بالجنوب ـ أن ثمة أولويات ومفاضلة بين صنوف القتلة وبرامجهم ومصالحهم في سورية، وان الاستناد لقواعد المصالح الآنية لدرء المفاسد العظيمة، قد يتغير بتغير معطيات ووقائع القضية السورية برمتها، والتي تمضي لغايته بأولويات لم تكن على أجندة ثورة السوريين خلال انطلاقتها.