جاءت زيارة وفد مجلس محافظة درعا، برئاسة المهندس كمال برمو نائب المحافظ لمدينة طفس مهمة ومثيرة، عشية هندسة التسوية الاخيرة بالضغط والإخراج الروسي.
أهمية اسم "برمو" برمزيتها ودلالاتها، فهو أعلى سلطة تنفيذية من أبناء حوران مع النظام، وتمثل مع صحبه من المدراء التنفيذين طبيعة الجيل والنسق الثاني من أبناء المحافظة والسلطة، التي برعت بإدارة تقسيم الشارع السوري وهندسته بما يحقق ديمومتها، وبما يمنح توازنات في البنية المجتمعية ستؤثر لاحقا في سيرورة الحياة السياسية في عموم البلاد.
فالمهندس "برمو" بموقعه الجديد جاء من خلفية مهندس في مديرية الخدمات الفنية، ولم يصبه ما أصاب زملاءه في عهد المحافظ الاسبق فيصل كلثوم قبيل اشتعال الأحداث في مدينة درعا حين زج بالسجن عشرات المهندسين بتهم اختلاس الأموال العامة، غالبيتهم من ذات المديرية.
لم يكن حضور د. عبد الرحمن برمو والد المهندس كمال قد أفل نجمه بموقعه السابق نائبا للمحافظ لدورتين، ثم مع اشتعال الأحداث بشوارع درعا كان قد تسلم أمين فرع الحزب ورئيسا للجنة الأمنية بدرعا، ليحضر الأب في شوارعها وبين شبابها محاولا كبقية النسق المشابه من ابناء مرحلته، إبقاء شعرة معاوية لسلطة رعته ومكنته، وتعاطفا بلا ادوات ومفاعيل مع شارع ينتمي إليه قد انتفض، فحاول امتصاص غضب الناس، خطوة سيدفع ثمنها الرجل حتى بعد وفاته في مدينته طفس والتي أدت لنبش قبره وحرق جثته في سابقة لم تعرفها حوران والتي تتسامح مع الموتى وربما تغفر خطاياهم تاركة إياها ليوم الحساب.
يعض نائب المحافظ الجديد على جرح أبيه أمس، ويزور مدينته بعد عقد عن الغياب، ممهورا بمقتضيات "الثورة"، لكن هذه المرة ببيريسترويكا بوتينة، فعشرات معه في ذات الزيارة تناديهم اصوات معتقليهم في السجون السورية، وقبور أهاليهم ومدنهم المدمرة ليست بعيدة عنهم، بل تحاصرهم في هذه الزيارة أو غيرها، وهذا ليس فقط في النسق الرسمي، بل يتقاطع مع الجانب المدني في مدينة انهكتها الحرب، فقبلت ما رفضته قبل أعوام معدودة.
ليس ثمة قواعد عامة ثابتة الدلالة لما يجري كـ"بيريسترويكا" لكن الثابت أن "برمو" الأمس واليوم يوافق على توصيف، ما جرى حوله بظاهرها "مؤامرة كونية على سوريا وفي عمقها مطالب محقة للناس"، وضمان لبعض الخيوط التي رمتها السلطة لأبناء الريف فقربتهم ومنحتهم دورا وظيفيا ما كان ليحدث لولاها، وهو يشابه الآلاف في حوران وعموم سوريا، فأبرزت رجال سلطة لعائلات كاد يختفي حضورها لولا رعاية السلطة، وصولا للعائلة الواحدة والتي قد يحالفها حظها التاريخي بزعامة شعبية لا دسم فيها، فتمنح بعض افخاذها شيئا من المسؤوليات التنفيذية، هذا ينطبق على غالبية عائلات حوران من الزعبية للحريرية للمقداد والمسالمة والرفاعية والغزاوية وليس نهاية بالبرماوية وهي من العائلات الصغيرة أمام منافسيها، كما أن هذه التوزيعة الجديدة، أيضا قد تسيل لعاب القوى الشابة المتحمسة لإعادة الإعمار فتحصل مكاسبها وترتقي في سلم استقلالها وحضورها، وهي بالأصل لم تقطع علاقاتها مع القواعد الشبابية الواسعة غير المؤهلة فنيا، لكنها بالتسويات بدأت تتحضر لعلاقة لا بد من طرفيها كباحث عن عمل ومستثمر له.
البيريسترويكا الروسية ليست في طفس لوحدها، يمكن للزمن عودة سريعة الى التسوية في عام 2018 والتي أعطت كل من يريد فرصة منحته إياها، زعامات جديدة أو تهجير أو معارضة مع البقاء في حوران رغم المخاطر.
ولأول مرة في الهندسة البوتينية، تشهد المنطقة الشرقية من المحافظة إجبار الأسد ممثلا بعلي مملوك توقيع تسوية لضباط منشقين، وقبول خدمتهم في اللواء الثامن مقر أحمد العودة، ورفع العلم السوري، ودعوة العودة ذاته "لإعادة هيكلة الجيش السوري" ولأول مرة أيضا تقبل روسيا سلاحا غير مرتبط بالأسد مباشرة، ويمكن أن يكون ضده أو بوجه عناصره، ولا تصفه بسلاح خارج عن الدولة وملحقاته بوصفه إرهابياً وتكفيرياً.
بل أكثر من ذلك بالعودة لطفس يتسلم عناصر الفوج 666 التابع للفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد حفظ الأمن في عموم المنطقة الغربية، وعناصر الفوج بالغالبية من أبناء التسوية لذات المنطقة، وحتى ضباطه من أبناء المحافظة لكن لم يثبت مشاركتهم بجرائم القتل والتدمير، فهل يمكن اعتبار الفوج وعناصره، الجناح الثاني لحميميم بعد علنية جناح العودة.
أبعد من ذلك تواصل لجنة المفاوضات المركزية ممثلة بعدد من ضباط الجيش الحر سابقا جلساتها المكوكية مع قيادات أمنية كانت بحرب ضروس عليهم حتى الأمس، فيجلس كلا من العقيد أبو منذر الدهني مقابل لؤي العلي الموصوف بالقاتل الأكبر في حوران، ويتبادل أعداء الأمس بعض وجوه التنسيق لضرورة تنفيذ الخطة الروسية، كما يرسمها بوتين ودوائره الضيقة وصولا لحميميم وتطبيقها.
لا تشبه الخطة الروسية الحالية سوابق لها فيحتم علينا القياس هنا، إلا أن النهايات في العموم تتشابه لذلك نتوقع نهايات متشابهة لسابقاتها، أو نقارب اليوم بالأمس، ففي بصرى شرقا مرة أخرى، حيث العودة زعيما منفردا، لا عودة "للشيعة" لكن لا بأس بقسم للأمن العسكري يتبع لفرع لؤي العلي، ومثله قيادة منطقة، تتبع لقيادتها، ورئيس مجلس مدينة، لا يوفر جهدا في زيارة دمشق أو محافظ درعا، لتقديم خدمات لمدينته ومواطنيها، وكثير من المؤسسات المدنية كالصحة والتعليم والكهرباء والمياه والهاتف تتبع لمديرياتها ووزاراتها المركزية، فلمن القرار في الخرائط الجديدة؟
البيريسترويكا البوتينية تبدو تجربة مثيرة لكثير من الأسئلة، تغيب تفاصيلها فتأخذنا بظنونها وتوقعاتها ومتطلباتها العديدة، فالروسي ذاته والذي رفض بتصريحات علنية "لا سلطة سنية لسورية" تتقدم وتسيطر قوات شرطته العسكرية، المحسوبة "شياشانيا" كنوع من تطمين ذات المكون الذي رفضته موسكو، ويتضح أن أقل رتبة في شرطته العسكرية تكسر ظهر جنرالات الأسد.
والقاعدة المتبعة لغايته بحسب معطياتها تشي أن الروسي ماض بالتغير من القاعدة إلى الهرم، اذ يسيطر على القرار الاقتصادي والسياسي، متغلغلا بوحدات الجيش، وبات له فرقه وضباطه وعناصره، إضافة لتحكمه بالقوة الجوية، وقريبا من السيطرة عسكريا، يحاول استمالة الشارع السوري، بكثير من الوعود وغالبية الرافضين اخذهم شمالا، ورسالة للغرب "لست على عجلة من الأمر" والأسد قد يبقى بالسلطة بإرادتي ولكن عليكم أن تفهموا البيريسترويكا البوتينية، الأسد بلا مخالب، ولا دولة عميقة تلتف حوله، وحواضنه الشعبية نجحت التجربة معها وقد تفك رباطها "المقدس" معه، وحين نتوصل لبديله أكون مركز القرار ومنفذه، ولن تحتاجوا لأية قوات أو معارك.
قد تنجح مقاربة موسكو، فأقرب التجارب لها سيطرة دمشق على بيروت طيلة عقود، ودمشق ليست بأهمية بيروت، وقد خضع الغرب لهذه المقايضة وقبلها فهل يعيدها في سوريا مع بوتين؟