حاولت استرجاع بعض اللحظات قبل عشر سنوات، في مثل هذا اليوم، وبحثا عن زوايا أوسع وإحاطة أشمل، تواصلت عبر "الماسنجر" مع صديق بقي هناك، تقطع الصوت، وخاف من قوى شيطانية، تعشعش في الأماكن، والزوايا، وعادت كما لو أن شيئا لم يكن، قليل من الوقائع، لكنه سرعان ما سأل سؤالاً استفزازياً.
"كل الثورات كتبها المنتصر، فكيف تكتب عن ثورة لم تحرز نصرها بعد"؟
كانت لحظات تحول في عموم حياة السوريين، فانتقلت بهم من خيار الشفهي الحذر والمنقوص، وغير المرغوب بتصديقه، لأقسى ما يتوقعه البشر في عوالم تغيرت وأرست قواعد الحكم الرشيد والانتقال السلمي للسلطة، عبر صناديق الاقتراع، وحقوق الناس في التظاهر والاحتجاج وبحماية الشرطة، كنا جزء من صورة العالم "كقرية صغيرة".
بعد الظهيرة بقليل، تلقيت اتصالا مفاجئا من محافظ درعا، يطلب ذهابي مع المصور لساحة المسجد العمري في درعا البلد "مثل النار" وتصوير كل شيء، وكررها مرارا، سرعان ما عرفت أنها " اشتعلت" فجميع المقدمات كانت قائمة تنتظر، ملكية أكثر شارل الرابع عشر، تنامي التداخل الأمني حتى بغرف نومنا، صفقات تفوح روائحها عابرة بلا حدود، تنامي حضور طبقة سريعة الفحش، مع انهيار بالطبقة الفقيرة وازدياد البطالة وشبابها من خريجي الجامعات والمعاهد، والمهن، والأهم عطش ومتابعة ليوميات الربيع العربي يحرك الساكن ويعيد إصدار المسكوت عنه عنوة.
وصلت عين المكان، التقط المصور لقطات سريعة، لم يتسع الزمن لتبادل الحديث مع الناس، وقد انكفؤوا، انقض "عاطف نجيب" رئيس فرع الأمن السياسي حينها، انتزع الكاميرا، صرخ بنا، أحاطنا رجاله بلباسهم المدني، وكانت شتائمهم تملؤ الفضاء المحيط بالمسجد، وقد توارى الناس خلف أبوابهم.
في طريق عودتنا، كانت الأرض قد صرخت، وبدت آثار الحجارة التي حملها الناس بمواجهة الرصاص، الطريق المنزلق، وماء سيارات الإطفاء، وأصوات نحيب، لم أع كنهها إلا مساء، بوصولي لمركز المحافظة، كانت الطائرات قد حطت في الملعب البلدي، وبجاهزية لقمع ما قيل انه اتصال من "نجيب" أن درعا خرجت عن السيطرة، وكان قد اغتال قبل وصولها كلا من محمود جوابرة وحسام عياش رميا بالرصاص الحي.
قليل من مساحة السؤال كشفت لي، أن ما جرى جاء على خلفية،اعتقال لأطفال منذ أسبوع وفشلت كل المساعي المجتمعية بالإفراج عنهم، أعضاء مجلس شعب، فاروق الشرع ورمزيته كنائب للأسد، أبو جابر بجبوج وعضويته السابقة أمينا قطريا للحزب، ثم عضوا في قوميته، بعض علاقات المصاهرة بين الحوارنة وأخوالهم المقربين في سلطة الأسد، وجوه كنت اعتقد أنها عابرة للحدود، فإذ هي واقعة تحت جحيم الأمن و"بسطاره"، ومع الوقت عرفت أن السلطات الأمنية سبق وأن أقالت الشيخ احمد الصياصنة عن إمامة المسجد العمري، لتقرير يشير انه لا يلح بالدعاء للأسد، ثمة معلمات نقلن قبل شهور من المدارس ووزارة التربية،إلى البلدية، والقصر العدلي، وكانت "كولبات للأمن" قد تموضعت في شوارع درعا البلد، قيل " شرطة سياحية" لكن كرهها قد حضر، وكانت كل أرزاق الناس وأملاكهم، ووراثاتهم، وبيوعهم قد توقفت، بفعل قرار سمي " الموافقة الأمنية" كل ذلك تجمع في القرية الحدودية، درعا البلد اللصيقة بدرعا المحطة كمركز إداري وتجاري يجمع كل أطراف حوران شرقها وغربها وشمالها وجنوبها.
وهذا ما هيأ اليوم التالي التاسع عشر من آذار ليكون بداية القيامة التي لن تهدأ فشارك عشرات الآلاف في تشيع شهداء الأمس، لينحسر تراكم عقود من الخوف ويحضر شباب قد عقدوا العزم أن يشعلوها قولا ومطالبا بالإصلاح فالأول مرة طوال عقودي الأربعة حينها، أسمع شعارات ليس فيها اسم الأسد، فصرخوا " الله، سوريا، حرية" والمطالبة بمحاسبة من قتل أمس لكنه سرعان ما سقط شهداء اليوم التالي إثر عودة الناس من مقبرة البحار أقصى جنوب درعا البلد.
منذ هذا اليوم لم يكن من السهولة لبلورة إحاطة كاملة، بالمجريات اليومية، إذا سرعان ما انتقل مشيعوا الأمس إلى مدنهم (نوى والصنمين وجاسم وانخل شمالا وغربا الشجرة وسحم وتل شهاب وطفس، وشرقا من بوابة درعا النعيمة مرورا بكحيل وصيدا، والجيزة والمسيفرة ومعربة وبصرى، وليس نهاية بالمدن المجاورة للسويداء صماد وخربا)، فازداد سخط الناس وغضبهم ورغبتهم في التحرك ووضع نهاية لعقود الخوف المتراكمة، وكانت التحركات قد بدأت بالاتساع، يمكن أن تشهد حملة اعتقالات في هذه القرية او البلدة بعيدة عن أعين العلام، ليبرز نشاط الشباب حاملا روحه وكاميراته ناقلا للجميع بعضا من حيثيات المشهد، أيام قليلة يتسع المشهد خارج حدود المحافظة وجغرافيتها، بما يؤكد شموليتها وحاجة السوريين للقيامة بعد عقود من الخوف في مملكة الصمت.