في مسجدنا الكبير، احتشدنا حتى من غير رواده، باعتباره المكان الأوسع والمتاح، ولدعوة سابقة للنظر بواقع المدينة، بعد أن أسقط المتظاهرون كل ما يرمز لبنية الدولة "مخفر، قسم أمني، فرقة حزب، والجمعية الفلاحية، ووحدة الاتحاد النسائي، وحتى المدارس"، بدأ المشهد يزداد تعقيداً بين الاضراب وإغلاق المدارس، رفضا لمشاهد الموت القادمة على عجل من أطراف مدينة درعا.
المشهد لا يتكرر كل سنة، يمكن حدوثه بالعقود، وحدث أخيرا، لا دولة في مدينتنا، تمخض اجتماع المسجد، بشكل توافقي على تسمية لجنة تمثل البلدة، ممثلة من كافة الفئات، بما فيهم من رفضوا الحراك، لكن بصيغة الخوف من المجهول والعين لا تقاوم المخرز".
القوة الشبابية المتحفزة للحراك، شعرت بحصارها، وبات إعلانها لأي موقف يستلزم التوافق السابق، فيما الفئات المتخوفة بدت أكثر خوفا، فهي لأول مرة، تعمل من خارج أوامر تسلسلها الهرمي المعتاد، وقد تضطر للحضور بحال التوافقات للمشاركة بساحة البلد، حيث تحولت الهتافات من حال إصلاحية لمطالب بمحاسبة قيادات عليا.
صديق" فئوي"، قال لي "مو عاجبتني هاللجنة، تعمل بالعموم ولا تراعي الخصوصيات" بعثي للتو أخذ فرصته التاريخية، سألني "هلق تذكروا الثورات الشباب لما استلمت؟" صحفي استطرد "هذه الاخبار لا تنشر في صحفنا، بتقدر تقول انخرب بيتنا".
المختار أسر لي بوجعه "عمي أنا نصفي ابن نظام، ونصفي مع الناس، وين أروح".
اللجنة ذاتها تبحث عن أذرع تعينها، فالاجماع تم على أنها ممثلة للبلدة، ومواقفها معبرة عن الجميع، لكنها لم تكن تعي أن ثمة أفراد في ظل هيمنة أجهزة الدولة وشموليتها سابقا، لم ينضبطوا، فكيف الحال وقد هدمت أعمدة الخيمة، سألني رئيس اللجنة، "ما العمل على طريقة كارل ماركس؟".
"دعونا ندعوا الشباب للتطوع، فيراقبوا ويضعوا الجميع بملابسات ما يجري ليلا أو خاطفا".
جاءت الاستجابة معقولة، لكنه عمل مضني لساعات طوال بلا مقابل، دعونا لتبرعات بوجبات الطعام الليلي للساهرين، خوفا من انفلات داخلي، أو هجوم مباغت، انتشر الخبر كالنار في الهشيم، وصلت التقارير لمركز المدينة، سمعت في مكاتب المحافظة "ثمة عصيان ودعم خارجي" حاولت النفي، لكن المتشابهات كبرت لتعطي للرافض يقينه "عندكم لا يوجد دعم خارجي فماذا عن الآخرين"؟
اجبت "ليس لدي معلومات".
تشظت اللجنة واعتقل أكثرهم، عشية دخول قوة أمنية كبيرة، وتأخر قرارها، بالقبول أو الرفض، ولم يحسم جدلها، ثم عادت ذات القوة بنيران أوسع، هجرت الجميع، فكان الزعتري ورماله، ثم لبنان وخيمه المحترقة، ثم تركيا، وليس حال صقيع أوروبا وعزلتها بأفضل.
اليوم يحاول أبناء ذات البلدة، انتاج ذات اللجنة، لكن تفاصيلها تشبه قساوة الأمس، وقد زادها الشتات قهراً، "لجان، احزاب فيس بوكية" مواقع، تنسيقيات، قلت في محضر رأيي: "لا خيار سوى المحاولة واستمرارها، وإلا ستأكلكم التهم المتبادلة، والنيران والصقيع، وموائد اللئام لم يتهنى بلقمها سلفكم".
قد يكون من الصعوبة إنماء أضافر للقوى السياسية، فالجيش دوما في الثكنات، والأمن للقضايا الجنائية، وكل قوة هي محل شبهة، ولا روافع ودعم لها إلا بحدود الولاء والأجندات.
العمل مجددا أشبه بسابقته؟.
القوى المتولدة في ساحات الفضاء الازرق غرفه وقاعاته "الانترنتية"، باتت تشبه بذاكرتي، اللقاء الأول، عشية الصيحات الأولى، حجم التحديات وقراءتها متفاوت تبعا لواقع الأفراد وخصوصياتهم، ولا تكفي جرعة التهجير المريرة، للالتقاء، ولا دافع المواجهة المفترضة، فالناس حدود حتى في العالم الافتراضي وقوانينه، كما أن سنوات التصحر السابقة في العمل المدني والجماعي، ستحضر وتبدو تفاصيلها كمن يكتشف القوانيين بالفطرة، فمقدمها مندهش، ومتلقيها مشكك، وبينهما ثمة أطراف لا يعنيها إلا قناعاتها، فتهجر العمل والإجماع، لتنافره مع قناعاتها الراسخة، بنية معيقة تدور بمطحنتها منذ سنواتها العشرة، وتستمر.
في قواعد العمل العام غالبا قواعده تستند لتمثيل الشارع، لكنه في الحالة السورية، مشتت في منافي الأراضي، وتختلف حتى تواقيته الزمنية، والأصعب أن يسأل من بقي صابرا على جرحه في الداخل السوري حالة المشاركة واعتباره جزءا من التمثيل فمن معيقاته الأمنية المتصاعدة، وصولا لانقطاع الكهرباء والانترنت تبدو الشراكة والتوافقات أشبه "بضرب المندل".
ثمة خيار أولوية يقبل بالمبادرة، فيصيغ ويقدم ويراعي النسبة الغالبة للناس، يشرح ويجترح الحلول التي يتلاقى حولها أكثر من النصف، فتغدو حينها الاعتراضات محقة ولكنها ليست معيقة للتنفيذ والإقدام والمضي "فإرضاء الناس غاية لا تدرك".
في الخيار الأخير يتوجب على القوى السورية، إشهار نفسها في الواقع، وقوتها في تنظيمها، وانحياز الشارع العريض لمواقفها، إضافة لحضورها البنيوي المتماسك، ولا يمكن لقوة واحدة تحقيق ذلك دون المرور والتفاهم والانسجام مع قوى شبيهة ومتوافقة تساند بعضها وتوحي بغالبية في الشارع السوري عموما، وبذلك يمكنها تجاوز عقدة، القوى "الاضافرية" فلا تنازعها سلطة، ولا تمثيل، وتحاول دوما التلاقي معها، على قواعد المساندة، لا التضاد، فتضطر الأخيرة، للولاء، وإن كانت معارضة للأولى، فشرعية التمثيل أقوى بيانا من قوة الأمر الواقع.
بين تجربة الاجتماع الأول، محاصر بمخاوفه، وعدم وضوح المشهد وما يخفيه من تحولات، ومرور سنوات الجمر، تبدو الضرورة ملحة لاجتماع ثان يضع النقاط على حروف المشهد السوري، متجاوزا كل المعيقات، مستفيدا من كثرة الخيبات والنكبات، متجاوزا أخطاء وقع بها أو فرضت عليه، معلنا قساوة اللحظة وما سيلحقها من تحولات تصل لضياع هوية وطن كان الأمل يحذونا ببنائه وصونه وعلوه للجميع.