( عن القدس العربي)
في الوقت الذي كان التليسكوب الخارق “سميث ويب” يرسل صوره للمجرات في أغوار الكون التي تبعد آلاف السنين الضوئية عن كوكبنا ويجلي بعض الغموض عن أسرار الكون، كانت إهراءات مرفأ بيروت تتساقط واحدة تلو الأخرى في مشهد كوكبي في طريق الاندثار.
سنتان مرتا على الانفجار الكبير الذي هز بيروت والعالم كأكبر انفجار بعد انفجاري هيروشيما وناغازاكي. سنتان وكأن دمار مرفأ بيروت “مينا الحبايب” يقع على كوكب يبعد سنين ضوئية ويحتاج لتيليسكوب خارق ليرسل صورة واضحة عن حقيقة الانفجار الذي أوقع أكثر من مئتي ضحية مروا في الوقت الخطأ جانب المرفأ، أو يقطنون في المنازل المجاورة التي أصبحت كالإهراءات المتهالكة أثرا بعد عين. تعطل المرفأ الذي كان يستقبل سفن المؤن التي تغذي لبنان، وهدم الإهراءات وسفح ملايين أطنان الحبوب في زمن سيئ ندر فيه التزود بالحبوب بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
الشعب يريد إجلاء الحقيقة
سنتان مرتا على مرارات لبنان في أزمته السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والمالية، ليأتي انفجار مرفأ بيروت ليزيد في الطين بلة كبيرة، والناس في حيرة من أمرهم لتدبر أمور الحياة التي باتت أصعب في ظل التضخم المالي الكبير، حيث باتت قيمة الليرة اللبنانية لا تساوي ثمن بصلة.
فمنهم من أخذ طريق البحر لهجرة سرية بعد أن كان اللبناني يعيش في بحبوحة ودخله السنوي أعلى دخل في العام العربي، ومنهم من فضل مصارعة المصاعب ومغالبة الحياة ويطالب بمعرفة حقيقة الانفجار وأسبابه ومن المسؤول عنه.
عشرات آلاف اللبنانيين المحتجين خرجوا في مسيرات في الذكرى الثانية للجرح الجديد ينددون بفشل الحكومة في كشف الستار عن مأساة المرفأ، واتهموا العديد من كبار المسؤولين بضلوعهم فيها، وانتقد البطريرك الماروني بشارة الراعي حكومة البلاد لإخفاقها في محاسبة المسؤولين، وقال:”نرفع صوت الغضب بوجه كل المسؤولين الذين يعرقلون التحقيقات”
وقال البابا فرنسيس يوم الأربعاء إنه يأمل في تهدئة خواطر الشعب اللبناني بتحقيق العدالة في الانفجار مشيرا إلى أن “الحقيقة لا يمكن إخفاؤها أبدا” لكن لبنان ربما يشذ عن القاعدة.
وطالبت عائلات الضحايا مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أيضا بإجراء تحقيق دولي، ونظموا احتجاجا يوم الخميس أمام السفارة الفرنسية في بيروت، مطالبين باريس بدعم إجراء تحقيق خارجي، لكن آية مجذوب الباحثة لدى “هيومن رايتس ووتش” قالت، متحدثة إلى بعض المتظاهرين، إن فرنسا عرقلت جهود إجراء تحقيق خارجي لأسباب سياسية.
وفي مقابلة مع صحيفة “لوريان لوجور” اللبنانية اليومية التي تصدر بالفرنسية، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إنه اقترح إجراء تحقيق دولي على السلطات اللبنانية، لكنهم اختاروا إجراء تحقيق محلي بدلا من ذلك” وأضاف ماكرون “إنه خيار سيادي احترمته فرنسا والدول الصديقة للبنان”.
وتابع أن التحقيق اللبناني يجب أن يُستأنف ويأخذ مجراه. وقال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إن يوم الخميس يوافق ذكرى مرور “عامين بدون تحقيق العدالة”، ودعا في تغريدة إلى إجراء “تحقيق يتسم بالحياد والشمول والشفافية” وهي دعوة طالب بها أيضا وفد الاتحاد الأوروبي في بيروت.
دولة لبنان العميقة
دولة لبنان العميقة ربما كانت بعمق مجرة بعيدة تظهر للعين المجردة لكن أحدا لا يصل إليها. قرارات البلاد المصيرية تجري تحت الستار ولا يتم الكشف عنها. حزب الله وحليفته حركة أمل عارضا التحقيق دون توضيح الأسباب، فحدث بهذا الحجم لو كان في بلد آخر لقامت الدنيا ولم تقعد، وأسقط حكومات، وشغل القضاء ليل نهار لإجلاء الحقيقة ومحاسبة المسؤولين عنه. في لبنان، يمكن لحزب الله وحليفته أمل أن يتهما القاضي فادي صوان الذي يقود التحقيق بتجاوز الصلاحيات بعد توجيه التهمة لوزيرين مواليين وتنحيته، ثم طلب تنحية القاضي طارق بيطار بتهمة الانحياز بعد أن وجه اتهامات لمسؤولين في حركة أمل وسعى لاستجواب مسؤولين أمنيين وساسة آخرين، ووجد حسن نصر الله الحل “بتنحي هذا القاضي واستبداله بآخر لديه صدقية”.
وهل يحق لرئيس حزب في بلد “ديمقراطي” أن يتدخل في القضاء ويطلب تنحية قاضيين؟
ويتضح أن لبنان الظاهر كواجهة عرض براقة يخفي وراءه الدولة العميقة التي تعرقل الرؤيا وتشوشها، أو تخفيها بكل بساطة. وبعكس “سميث ويب” الذي كلما تقدم تتضح له الصورة العميقة جلية، يبقى التحقيق في انفجار بيروت يعطي صورة غامضة كلما تقدم التحقيق وحاول القاضي استكمال الملفات. وأوقف وزير المالية التوقيع على مرسوم بتعيين قضاة جدد بسبب “مخاوف بشأن التوازن الطائفي” وألقي التحقيق في غياهب الجب..
شحنة نترات الأمونيوم وتشعباتها
مساء الرابع من شهر آب/ أغسطس من العام 2020 كان مساء حزينا لكل اللبنانيين ومن يحب لبنان.
في تمام الساعة السادسة واللبنانيون يعودون رويدا من الشواطئ، أو بدأوا يملؤون المقاهي بمحاذاة الروشة، انفجر مئات الأطنان من نترات الأمونيوم بسبب حريق في مكان التخزين، مكتب التحقيقات الاتحادي الأمريكي (إف.بي.آي) أشار إلى أن كمية نترات الأمونيوم التي انفجرت كانت خُمس إجمالي الكمية البالغة 2754 طنا التي تم تفريغها في 2013، مما زاد من الشكوك في اختفاء جزء كبير من الشحنة، فأين ذهبت هذه الكمية؟
هل استخدمها حزب الله في صنع متفجرات؟ أم أنها شحنت إلى سوريا التي بدأت تصنع البراميل المتفجرة لتسقطها على رؤوس الشعب السوري؟ كالقرود الثلاثة: لم يتكلم أحد، ولم ير، ولم يسمع. مع أن عقرب بوصلة الدلائل والمؤشرات تتوجه نحو الدولة العميقة، وخلفها النظام في سوريا. ببساطة “سميث ويب” الذي نجح بسبر أغوار الكون البعيدة، ربما لن يتمكن أي تيلسكوب أرضي يقوم بالتحقيق في انفجار مرفأ بيروت من سبر أغوار الحقيقة. ودائما هناك من يعيد التحقيق إلى المربع الأول.
كاتب سوري