لا تزال مهنة الصحافة في عالمنا السوري كمهنة حلاق القرية الذي كان يتعدى على مهنة طبابة الأسنان، وعلى الجراحة في ختان الأولاد وفصد الدم، "وكاسات الهوا"، ورغم مزاولته لمهنة الطبيب، فإن أحدا لم يكن يناديه إلا بمهنته: حلاق.
وخلال مسيرتي الطويلة في هذه المهنة قابلت عددا غفيرا ممن يقدمون أنفسهم كصحفيين، ويعتريني عجب عجاب عندما أختبر أحدهم فأجد أنه لا يجيد حتى اللغة العربية، ولا يعرف من تقنيات الصحافة، ومسالكها، ودقائق أمورها، وسعة ميدانها، سوى النزر القليل بما يمكن أن يصبغ على نفسه صفة صحافي كالعاشق الذي لا يعرف من العشق سوى كلمة " وحشتيني". وكالحلاق الذي تطفل على مهنة الطبابة، فمثل هؤلاء يتطفلون على مائدة صاحبة الجلالة. وأنا لا أنتقص من أي صحافي جاء من مشارب أخرى لكنه عبر إلى المهنة على جسر من تعب، فطور من معارفه، وسبر أغوار المهنة، ووسع من مداركه واطلاعه ليكون على مستوى عال في المهنة، فكثر هؤلاء الذين اختاروا مهنا أخرى ولكن عن حب وعشق للمهنة الجديدة التي اختاروها، فالمحامي نزار قباني أصبح من أكبر شعراء عصره، والطبيب عبد السلام العجيلي صار من كبار الكتاب في سورية. ومهنة الصحافة تتطور بسرعة تطور التقنيات، وتتشعب بتشعب الوسائل وتفرعها، فاليوم مطلوب من الصحافي الحقيقي ان يلم إلماما تاما بالملفات التي يختص بها، وإذا عمل بالوسائل السمعية البصرية فعليه أن يتقن تقنياتها إتقانا تاما، فالصحافة هي علم العلوم، ومن أراد أن يخوض غمار الغوص فيها عليه أن يكون على اطلاع واسع في علم الاجتماع، والتاريخ، والجغرافيا، والسياسة، والاقتصاد، والأدب، ولغة أجنبية على أقل تقدير. وإتقان العمل على الحاسوب، وإتقان تام للغة العربية التي ستكون الوسيلة التي سيخاطب بها الناس فهو مسؤول عن كل كلمة يقولها، أو يكتبها. وعلى الصحافي احترام الميثاق الأخلاقي، وميثاق الشرف، فيتحلى بالأخلاق الحميدة، ولا يستغل المهنة لكسب غير مشروع، وللتهجم على الغير والانتقاص من قدرهم، ولا يتطاول على من هو أكبر منه، وأعلم منه، وأقدم منه في المهنة. وللأسف الشديد أن مهنة الصحافة ذات باب عريض تدخل الفرس الأصيل، وتدخل الخنفساء، وتشهد أن الخيل عندما تأتي لتنتعل ترى الخنفساء قد مدت كراعها، ومهنة الصحافي في غابر أيام العرب كان يقوم بها الشعراء، فهم الذين كانوا ينقلون أخبار الحروب والهزائم، ويمدحون، ويهجون، ويفخرون، ومن هنا بقي ذكر بعض الأشخاص شاخصا في الأذهان فمثلا المتنبي خلد ذكرى ملكين: مدح سيف الدولة الذي بنى دولة الحمدانيين وقلعة حلب شاهدة على ذلك، وهجا كافور الإخشيدي هذا المملوك الذي غدر سيده، وكان بالأمس خادما عنده
فقال له: وتعجبني رجلاك في النعل إنني رأيتك ذا نعل إذا كنت حافيا.
وقد صنف الجاحظ الشعراء إلى ثلاثة مراتب: الشاعر، والشويعر، والشعرور.
وقال أبو العلاء المعري: ومن لم ينل في القول رتبة شاعر تقنع في نظم برتبة راجز.
وعلى غرار الجاحظ وتصنيف الشعراء. يمكن تصنيف مراتب الصحفيين: صحافي، وصويحف، وصحفوف.
وما أكثر هذا الصنف الأخير.