سنة حداد على صاحبة الجلالة

في تشييع أحد الصحفيين القتلى في عزة من قبل دولة الاحتلال
في تشييع أحد الصحفيين القتلى في عزة من قبل دولة الاحتلال

تستحق مهنة الصحافة بجدارة لقبها ب "مهنة المتاعب"، بل هي مهنة الموت في أحايين عديدة، فصاحبة الجلالة لم تأمن على نفسها يوما من الاعتداء عليها في كل أنحاء الدول في العالم حتى في الدول التي تعتبر نفسها ديمقراطية وتحمي حرية الصحافة والرأي التعبير. فهي المهنة الوحيدة بين كل المهن التي تتعرض للمضايقات، والمنع، والتعتيم، بل والهجوم عليها. فالصحافي هو الوحيد المهدد في مهنته، فهل النجار، والحداد، واللحام، والخباز، والطبيب، والمحامي، والمحاسب، وسائق سيارات الأجرة، والموظف، ومدير شركة، والعامل، والمزارع.. مهدد في مهنته؟

إن من يختار مهنة الصحافي، كالذي يختار مهنة الجيش، فهو يعلم سلفا بأنه معرض للموت للدفاع عن الوطن، ويقبل بهذا الخطر عن حب ورضى، وإن كان البعض يلجأ لهذه المهنة لإغراءات أخرى مالية، أو "للبرستيج"، فالصحافي وخاصة الميداني فإنه يضع روحه على كفه في تغطية الحروب، والنزاعات، وكذلك الأمر بالنسبة للصحافي الاستقصائي الذي ينبش الحقائق المغيبة. ففي تقرير سنوي لجنة حماية الصحفيين يوم الأربعاء إن عددا قياسيا من الصحفيين قتلوا في أنحاء العالم العام الماضي وإن إسرائيل مسؤولة عن مقتل نحو 70 بالمئة منهم.وقالت اللجنة في بيان إن 124 صحفيا على الأقل قتلوا في 18 دولة في عام 2024، وهو العام الأكثر دموية بالنسبة للمراسلين والعاملين في الإعلام منذ بدأت اللجنة في رصد الأعداد قبل أكثر من 30 سنة.

وفي بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان لم يكن عيبا في سالف زمان قرانا أن يمتهن الحلاق الطبابة، والختانة في ظل فقدان الأطباء المحترفينِ. فكان اذا جاءه زبون حلق رأسه، وربما طلب منه أن يقبع له بكلابه، ضرسا نخرة أو ضرسين، أو اصطحبه معه ليختن ولدا أو ولدين. ورغم التهاب أعضاء الصغار وتورم فكوك الكبار، لم يكن واردا إن يقدم أحدهم احتجاجا أو احتجاجين. ولما صارت الصحافة مهنة مهددة للسلطان، وليست "مهنة من لا مهنة له" لم يعد مستهجنا مقتل صحفي أو صحفيين.

ففي كتاب خير الكلام في حقوق وفنون الإعلام لعيسى بن هشام شبه مهنة الصحافة في عالمنا اليوم بمهنة حلاق القرية بالأمس. إذ في غياب الحرية والحماية لمن يمتهنها، إذ جاءها الباغون من كل واد يهيمون، يهدمون أكثر مما يبنون، ويقتلون أكثر مما يحيون دون وازع أو وازعين.

ففي وصف الصحافي يقول بن هشام:

هو الذي يستشعر الخبر عن بعد. ينام بعد أن تنام المدينة، ويصحو قبل أن تصحو. له إصبع القديس توما للتحقق، فإذا جاءه نبأ من فاسق تبين بوضعها على الجرح، أو أن يتيقن من الحقيقة من مصدر أو مصدرين. وهو الذي يضع قميص يوسف في أجفان يعقوب ليفتح عينيه على الحقيقة. ولا يحمل قميص عثمان ويصرخ في كل مكان، إرضاء لآل مروان، لقد قتلوا الخليفة عثمان. وهو غير مصاب بعمى الألوان.

 فإذا رأى الأبيض قال: أبيض.

 وإذا رأى الأحمر قال: أحمر.

وهو إذا صحت قال صحت. وإذا تلبدت قال تلبدت. وليس إذا هطلت على فرعون ضفادع قال:"عبرت سماء البلاد أسراب من طيور مغردة، وسمع، هنا وهناك، نقيق ضفيدع أو ضفيدعين".

ويضيف بن هشام:

هو الذي رافق بن مالك، وسيبوية لحول أو حولين. ونادم امرؤ القيس. وزهد مع المعري. ونام ملء جفونه عن شواردها مع المتنبي، وجال مع الحريري والهمذاني لعام أو عامين. فلا يرفع المنصوب، ولا يجر المرفوع، ولا يكرم الممنوع من الصرف بكسرة أو كسرتين فتتحرك عظام ابن مالك وسيبوية في القبرين.

 وهو الذي يتميز بصوت رخيم، وإلقاء رحيم, يخرج من الصميم. وليس إذا قرأ نشرة أخبار خلت أن حنطورا زار المكان، أو ثغاء عنز أو عنزتين.

وقال بن هشام في رئيس التحرير

هو الذي قرأ أكثر مما كتب. ولا يبصر راحة إلا على جسر من تعب. فإذا حكم أصاب، وإذا سئل أجاب لفرط ما جرب وجاب. وليس لصدفة عمياء جاءت من رب السماء، بدعم من مسؤول أو مسؤولين بعد حفلة من التملق في غاية للتسلق وصل إلى منصب أو منصبين. وليس إذا مر مرور الكرام قدما للوراء وأخرى للأمام في صالة تحرير أو صالتين، أو عمل في إحدى قنوات التعتيم والتنويم كقناة تسي تسي سي لسنة أو سنتين، أو كتب مقالة عصماء أو مقالتين، لا نعرف منهما أين الداء، ولا كيف الدواء، في مجلة مغمورة أو مجلتين، صار يصول ويجول ويقول: بت هيكل ورب الحسنين.

وقال بن هشام:

عن مالك بن هالك، عن وحش بن جحش، عن طبال بن زمار، عن فاتق بن ناطق، عن مارق بن سارق، عن متكبر بن أبي المصائب المتجبر قال: الصحافة سخافة. والمحترفون فيها أجراء لا شركاء. فلا نؤمن بالحقوق، ولا بالإعلام أو الآداب والفنون، ولا بكل ما يتفوهون. ونحن جاهزون لقتل من يقول لا أو لاءين، ونحن من الخجل والوجل على بعد ميل أو ميلين.

وختم بن هشام كتابه بالقول:

قال سعيد ابي النحس المتشائل: تشاءلوا تشاءلوا ولا تدعوا مجالا للمتسلقين المتملقين الكاذبين المنافقين المضللين المزمرين المطبلين القاتلين وجابهوهم بالحق، والحقوق بالحكمة و الحجة فمن ملك منهم ذرة من الفصاحة والبلاغة، ومن احترام صاحبة الجلالة بقدرها وعزها وشموخها ونزاهتها ليرد الصاع صاعين.