مفهوم جديد لـ "الخط الأحمر" ابتكره الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما في سوريا سنة 2013 بحسب ما يشرح "جوبي واريك" مراسل الأمن القومي في صحيفة واشنطن بوست في كتابه الصادر مؤخرًا "الخط الأحمر: تفكيك الأسلحة الكيميائية السورية والسباق الأمريكي لتدمير أخطر ترسانة في العالم"، والعديد من المغازي الأخرى تفسّر إلى حد ما السياسة الأمريكية تجاه سوريا خلال السنوات العشر الفائتة أو على الأقل خلال حقبة أوباما، ونتائج هذه السياسة.
كما يعطي ملمحًا عن الاستراتيجية الأمريكية الشاملة في منطقة الشرق الأوسط، حيث الخوف ليس من الأنظمة الحاكمة ولا على الحلفاء أو الأصدقاء؛ بل الخوف، أو الخشية بتعبير أدق، من ظهور مراكز قوى وأنظمة غير قابلة للتدجين ولا يمكن التنبؤ بسلوكياتها وردات فعلها المستقبيلة كالتنظيمات الدينية المتطرفة أو أنظمة دينية تجلبها الديمقراطية في لحظة غفلة.
حيث يلقي واريك، وهو مؤلف كتاب "رايات سوداء" الحائز على جائزة بوليتزر، القصة المثيرة والمجهولة بالنسبة لكثيرين للمهمة الأمريكية الرئيسية التي اعتمدها أوباما في سوريا بعد أكثر من سنتين ونصف من اندلاع الثورة السورية، والتي تلخصت بانتهاز فرصة الفوضى في سوريا للعثور على ترسانة الأسلحة الكيميائية وتدميرها وإبعادها عن أيدي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" وغيره من التنظيمات الإرهابية.
فقد أشار الكتاب، بحسب مقتطفات منشورة عنه، أن معلومات استخبارية سرية كشفت اضطرار الأسد للأخذ بنصائح بعض مساعديه ومؤيديه وداعميه بالجوء إلى استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المناطق الخارجة عن سيطرته لإخضاع أهلها واستعادة السيطرة عليها من يد المعارضة بعد عجز قوته التقليدية بفرعيها العسكري والأمني، وأن ذلك وقع في آب (أغسطس) 2013، حيث تم قصف الغوطة الشرقية بغاز السارين مما أسفر عن مقتل مئات المدنيين، وكان الأمريكان على علم مسبق بهذا التوجه وهذه الاحتمالية لذا أطلقوا العديد من التحذيرات معتبرين ذلك خطًا أحمر لا يمكنهم القبول به وأنهم لن يقفوا متفرجين إزاءه.
ليجد أوباما نفسه في اختبار صعب أمام وفائه بوعيده وتوعّده للأسد وقواته - الذين اضطروا إلى جرّ البلاد إلى حرب "غير أهلية" - قبل أن تأتيه النجدة الروسية بعرض الرئيس فلاديمير بوتين تسليم الأسلحة الكيميائية السورية لواشنطن مقابل عفو غير معلن عن مرتكب المجزرة. الأمر الذي تلقفه أوباما بكل ممنونية قافزًا بنفسه وببلده خارج المستنقع السوري الذي كان على وشك الوقوع فيه.
ومع ظهور تنظيم "داعش" وتمدده في سوريا والعراق واستيلائه على الكثير من الأسلحة والذخائر بطرق متعددة وازدياد قوة شوكته؛ برزت المخاوف الغربية بإمكانية حصوله على جزء من ترسانة سوريا الكيميائية، رغم التأكيدات الروسية المعلنة والتأكيديات الاستخباراتية الغربية غير المعلنة أن ذلك غير ممكن، إلا أن أوباما لم يشأ أن "ينام بين القبور ويرى كوابيس" فاعتمد استراتيجية الاستحواذ على ترسانة سوريا من الأسلحة الكيميائية مهما كلف الثمن، ليجد أن الثمن مجاني، وأن كل ما عليه هو إرسالة ناقلة بحرية أمريكية أو بريطانية لنقل الترسانة من سوريا ثم "إعدامها" في البحر.
ليستغرق الأمر عامين على الأقل ريثما يتمكن السيد بوتين من إرسال قوات روسية ينقذ بها حليفه الأسد بعد تهاوي قوته وتهاوي قوة داعميه الإيرانيين أمام فصائل المعارضة، ويستغل الفرصة بتأسيس موطئ قدم شرعي طويل الأمد في المياه الدافئة.
وفيما نجحت واشنطن في منع كارثة واحدة في سوريا، فشلت في منع سلسلة مطولة من الكوارث جاءت معظمها لصالح من يفترض أنهم أعداء أمريكا، الذين ليس من بينهم بشار الأسد، ليقوى التواجد والنفوذ الإيراني والروسي ويتعزز ويترسخ، ولتزيد تركيا من صعوبة رقمها في الشرق الأسط، وليخرج الحلفاء العرب والحليفة التقليدية إسرائيل نسبيًا من اللعبة في سوريا.
معلومات دقيقة ومفصلة يلقي الكتاب الضوء عليها لم يكن كثيرون يعلمون عنها شيئًا، مثل الدليل الرئيسي في مجزرة سراقب الكيميائية. وهو جثة السيدة الضحية التي تم إسعافها إلى تركيا بعد سقوط عبوة تشبه تمامًا عبوات الغاز المسيل للدموع في فناء بيتها من مروحية، ليتضح أن الغاز الخارج منها هو غاز السارين نفسه، ليتم التحفظ على جسدها بمعرفة المنظمات الدولية كالأمم المتحدة ومنظمة مكافحة الأسلحة الكيميائية، وإجراء الفحوص والاختبارات الرسمية عليها. الفحوص والاختبارات التي كانت ومازالت غير ممكنة رسميًا في سوريا.
معلومة أخرى غاية في الأهمية والخطورة والغرابة في نفس الوقت وتدور حول من أرسلته الأمم المتحدة إلى سوريا للتحقيق بشأن جرائم الأسلحة الكيميائية، وهو الأستاذ السويدي المتقاعد آكي سيلستروم صاحب الخلفية الواسعة في الحرب الكيميائية، وخبير علم وظائف الأعضاء، والخبير بمختلف الأسلحة الكيميائية بما فيها السارين نفسه. لذلك تم إرساله إلى سوريا للقيام بمهمة مستحيلة، والمتمثلة بمحاولة إقناع مسؤولي نظام الأسد بالسماح بإجراء تحقيق ميداني ذي مصداقية على أسس علمية، وتمكينه من الذهاب إلى أماكن وقوع المجازر والتحدث إلى الضحايا. وقد وصل إلى دمشق فعلًا ليتم حبسه في مقر إقامته في أحد فنادق العاصمة.
ومع فقدانه هو والفريق المرافق الأمل، واعتقادهم بانتهاء مهمتهم، وفي ليلة 21 آب (أغسطس) 2013، وبينما هم نائمون؛ وقع هجوم بالأسلحة الكيميائية على بعد ستة كيلومترات من فندقهم، وسقط أكثر من ألف ضحية بغاز السارين.
لتستنفر الأمم المتحدة ويضغط سيلستروم وفريقه للسماح لهم بالذهاب والتحقيق وجمع العينات وكشف "حقيقة" ما حدث بالفعل هناك للعالم، بحسب ما يدعي النظام ومسؤولوه. وهنا يحدث تدخّل غريب الشكل والمضمون من قبل الولايات المتحدة، ويبدأ أوباما في الضغط بشدة على الأمم المتحدة لسحب سيلستروم وفريقه، بحجة أن ردًا أمريكيًا وشيكًا سيقع في سوريا وعلى الأمم المتحدة سحب موظفيها، وعلى كل دول العالم سحب رعاياها من سوريا كي لا يتأذوا جراء الرد الأمريكي المزلزل الوشيك ردًا على مجزرة الغوطة التي ارتكبتها قوات النظام رغم التحذيرات الأمريكية المتكررة ورغم الضمانات الروسية المؤكدة.
وبما أن سيلستروم "رفض بشدة" الانسحاب والخروج من سوريا في ذلك الوقت وأصر على مواصلة المحاولة مع المسؤولين السوريين للسماح له ولفريقه بالذهاب للغوطة وإجراء اختباراته وتحقيقاته؛ فقد كانت الحجة كافية، بل أكثر من كافية، لأوباما وإدارته بإرجاء أي إجراء عقابي يقع على قوات الأسد في تلك الفترة طالما فريق التحقيق الأممي الدولي في دمشق. وما حدث بالفعل في الأيام التالية أن سيلستروم بقي في سوريا وواصل عمله بعد أسابيع من المماطلة والإرجاء، وبمرور الوقت تلاشى زخم الضربة الأمريكية وانتهت الحاجة إليها بالاستيلاء على مخزون سوريا من الأسلحة الكيميائية، أو ما تيسر منه، وإجبار سوريا على الانضمام إلى اتفاقية نزع الأسلحة الكيميائية والسماح للمفتشين بدخول البلاد في أي وقت، وحرمان تنظيمي "داعش" والقاعدة؛ بل وبعض التنظيمات المحسوبة على النظام السوري وإيران من أخطر أسلحة يمكن للمتطرفين الحصول عليها في بلد استراتيجي الموقع وتسوده الفوضى.