"أفقا".. نبع الحياة في تدمر بين الإهمال والتخريب

بثينة الخليل
السبت, 15 نوفمبر - 2025
صورة أرشيفية للشارع الرئيسي المُعَمَّد وقوس النصر في مدينة تدمر، التُقطت عام 2009 قبل اندلاع الثورة السورية وما شهدته المدينة لاحقًا من دمار وتغيّرات تاريخية.
صورة أرشيفية للشارع الرئيسي المُعَمَّد وقوس النصر في مدينة تدمر، التُقطت عام 2009 قبل اندلاع الثورة السورية وما شهدته المدينة لاحقًا من دمار وتغيّرات تاريخية.

"أفقا"، كلمة آرامية تعني "حجرة الماء"، وهو نبع كبريتي ساخن يُعدّ من أقدم موارد الماء في البادية السورية، ويعود استخدامه إلى آلاف السنين. شكّل النبع الأساس لنشوء تدمر، فهو الذي منح الواحة حياتها وجعلها محطة حضارية على طرق القوافل.


نبع الحياة والقدسية

لعب النبع دورًا روحيًا لدى التدمريين القدماء، وتشير الأبحاث إلى وجود محاريب ومذابح كانت تُستخدم للطقوس قرب النبع، ما يؤكد ارتباطه بالشعائر الدينية. كما كانت مياهه تُستخدم في الأعراس، وكانت الحيوانات تُسقى عبر قنوات محلية تُسمى "الطاحون" و"الشريعة".


أما تاريخيًا، ارتبط النبع بالذاكرة الشعبية التدمريّة. إذ تُروى روايات محلية أن الملكة زنوبيا كانت تستحم في مياهه الكبريتية الدافئة المنحدرة من الكهف الطبيعي، لما عُرف عن المياه من خصائص علاجية ومعادن غنية.


ورغم أنّ هذه الرواية لا تؤكدها المصادر الأثرية العلمية بشكل مباشر، فإنّ تداولها يعكس مكانة النبع الرمزية في الوعي التدمري وتاريخه الأسطوري.


يقع نبع أفقا جنوب غرب تدمر، وينبع من كهف يبلغ طوله نحو 400 متر داخل جبل "المنطار"، حيث تُظهر أعمال الترميم الحديثة وجود عدد من المنافذ والبئر الداخلية التي تغذي تدفق الماء.


الشاعر والباحث حسن العايد يوضح أهمية النبع قائلاً:

"أفقا كان سر الحياة في المدينة، وواحات الزيتون والنخيل تعتمد عليه بالكامل. النساء كنّ يحملن الجرار لتعبئة المياه، وكانت دورة التوزيع تمتد 21 يومًا يُسمى كل يوم منها «عدّان»."


الجفاف والإهمال: بداية الانهيار

بدأت معاناة النبع في أوائل الثمانينيات، حين أدى الحفر العشوائي للآبار الارتوازية إلى انخفاض منسوب المياه تدريجيًا. يشير العايد إلى أن الإهمال الرسمي فاقم المشكلة، خصوصًا بعد تشييد فندق "ميريديان" على الكتف الشرقي للنبع، ما غيّر توازن المنطقة المائية.


ورغم القيمة التاريخية والمعمارية الفريدة لتدمر، بقي الاهتمام الرسمي محدودًا، بينما لعبت منظمات دولية مثل اليونسكو دورًا أكبر في التوثيق والحماية. كما شهدت المنطقة سرقات أثرية منذ الانتداب الفرنسي، ومنها سرقة "قانون تدمر" وإهداؤه للقيصر الروسي.


الحرب والتخريب... بين النظام البائد وتنظيم داعش

ساهمت سياسة نظام الأسد البائد في تدمير النبع عبر تكثيف حفر الآبار الجائرة. ومع الثورة السورية، تعرضت محيطات النبع للإهمال، فيما نُهبت آثار المتحف، وتم إخلاء سجن تدمر قبل دخول داعش بوقت قصير.

لاحقًا، خرّب تنظيم داعش كهف النبع وبنيته الإنشائية، إضافة إلى تدمير معالم مهمة من المدينة الأثرية مثل معبد بل و قوس النصر.


أحد أبناء المدينة يقول لـ"السوري اليوم":

"تم طمس نبع أفقا بعد بناء فندق الميريديان أيام نظام الأسد البائد. وفي2020 انفجر مجددًا بسبب التنقيب عن الآثار، لكن أُهمل مرة أخرى. المنطقة مليئة بالألغام والناس تموت يوميًا… اسألوا عن البشر قبل الحجر."


معبد بل... أحد أهم المعابد في العالم

يُعد معبد بل في تدمر من أهم المعابد في الشرق القديم ومن أبرز المواقع الدينية عالميًا، بشهادة الأبحاث الأثرية الفرنسية. فهو معبد فريد يجمع بين الطراز المحلي والتأثيرات الهيلينية – الرومانية، ويمثل مركزًا روحيًا وسياسيًا للمدينة، كما يحتل موقعًا استراتيجيًا على حافة الشارع المعمد.


وقد وصفه علماء آثار بحسب الموقع الرسمي للآثار الفرنسية في تدمر، بأنه “أحد أعظم إنجازات العمارة الدينية في العالم القديم”، لما تميّز به من اتساع ورشاقة أعمدته ونقوشه.


تهدم المعبد بشكل واسع خلال سيطرة تنظيم داعش عام 2015، ما شكّل خسارة حضارية عالمية.


شريان حياة مفقود ومصير معلّق

بتراجع المورد المائي لنبع أفقا، تحول إلى رمز لانهيار طويل مسّ الإنسان والتراث والواحة معًا. فالمصدر الذي أطلق الحياة في تدمر عبر آلاف السنين أصبح شاهدًا على الإهمال والنهب والتدمير.والحفاظ على هذا الإرث يتطلب إرادة وطنيّة حقيقية تتجاوز الشعارات، لأن حماية الماء هي حماية الذاكرة والحضارة والإنسان قبل الحجر.


توأمة ثقافية مع إيطاليا… خطوة رمزية

جرى توقيع اتفاقية توأمة بين تدمر ومدينة بيستوم الإيطالية بهدف تعزيز التعاون الثقافي وتسليط الضوء على التراث التدمري عالميًا.


ورغم أهمية الخطوة، يبقى السؤال:

هل تكفي المبادرات الثقافية لتعويض ما فُقد من حياة وتاريخ؟ وهل يصل الاهتمام إلى الناس والواحة قبل أن يصل إلى الحجارة؟