نشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريرًا موسعًا عن المشهد السوري بعد انتهاء الحرب الأهلية، تناولت فيه ما وصفته بالانتقال الهش الذي يهدد بإعادة البلاد إلى دوامة جديدة من العنف والفوضى. وأشارت الصحيفة إلى أن موجة نزوح كبرى تجتاح سوريا مجددًا، إذ نزح أكثر من 400 ألف شخص خلال عام واحد فقط بسبب تصاعد التوترات الطائفية وأعمال الانتقام والنزاعات على الملكية.
بعد ما يقارب أربعة عشر عامًا من الحرب، انتهى الصراع السوري العام الماضي بسقوط نظام بشار الأسد. ومع الإطاحة به، عمّت البلاد مشاعر فرح ممزوجة بالأمل، إذ ظنّ كثير من السوريين أن زمن العودة إلى ديارهم قد حان. غير أن تلك الآمال لم تدم طويلًا؛ فمرحلة الانتقال السياسي إلى قيادة جديدة جاءت مليئة بالاضطرابات والانقسامات، وسرعان ما شهدت البلاد موجات نزوح جديدة بسبب عمليات انتقامية وصراعات طائفية وتوغلات إسرائيلية في الجنوب السوري.
بين ديسمبر 2024 ويوليو 2025، وثّقت الأمم المتحدة نزوح أكثر من 430 ألف شخص داخل البلاد، في مشهد يذكر بسنوات الحرب الأولى. لم تسلم أي جماعة دينية أو عرقية من تداعيات الفوضى الجديدة التي عصفت بمناطق عدة من سوريا.
السويداء: من التوتر إلى الدم
كانت محافظة السويداء الجنوبية مسرحًا لأعنف موجات النزوح الأخيرة. ففي صيف العام الماضي، تحوّلت التوترات القديمة بين الدروز والبدو إلى مواجهات دامية ذات طابع طائفي.
تروي ريم الحوران (43 عامًا)، من قرية الشهبا، تفاصيل ما حدث قائلة: “كنا نسمع إطلاق النار طوال الليل. وفي صباح 17 يوليو، صعد مسلحون دروز إلى سطح أحد المباني وأمروا جميع سكان القرية من البدو بمغادرتها خلال ساعة واحدة”.
هربت ريم مع زوجها وأطفالها، مختبئين ثلاثة أيام قبل أن تُجليهم منظمة الهلال الأحمر السوري إلى محيط العاصمة دمشق. وبعد أيام، اكتشف الزوجان أن ستة من أفراد عائلتهما قُتلوا، بينهم والدة محمد (85 عامًا) وابنة أخيه البالغة سبع سنوات.
ووفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان، تجاوز عدد القتلى في أحداث السويداء 1,300 شخص، بينهم نحو 400 مدني، معظمهم من الدروز. كما وثّقت نيويورك تايمز تنفيذ إعدامات ميدانية من قبل القوات الحكومية الجديدة، إلى جانب حالات قتل نفذها رجال بملابس عسكرية مجهولة الهوية.
نزاعات الملكية تعيد إشعال العنف
لم تقتصر الفوضى على الجنوب. ففي أنحاء متفرقة من البلاد، اندلعت نزاعات عقارية وطائفية مع عودة اللاجئين إلى منازلهم بعد سنوات الغياب. كثير من هذه الخلافات تعود إلى سياسات المصادرة التي اتبعها النظام السابق، إذ استولى على أراضي جماعات معينة -خصوصًا السُّنة- ومنحها لموالين من الطائفة العلوية.
ومع تغيّر موازين القوى بعد سقوط النظام، وجد العلويون أنفسهم في وضع هش، يخشون الانتقام وفقدان المأوى. ففي ضاحية السومرية بدمشق، فرّ مئات العلويين في أغسطس الماضي بعد إعلان لجنة محلية نيتها مراجعة وثائق الملكية، قبل أن تقتحم قوات مسلحة المنطقة وتعتقل عددًا من السكان.
قال محافظ دمشق، ماهر مروان إدلبي، إن ما جرى نتيجة “عقود من الاستيلاء غير القانوني على الأراضي”، محذرًا من أن “أخذ الحقوق باليد سيقود إلى الفوضى”.
إحدى النساء العلويات (32 عامًا) روت أنها تعرّضت للضرب والإهانة أثناء مداهمة منزلها، مؤكدة أنها لا تزال في الحي لأنها “لا تملك مكانًا آخر تذهب إليه”.
من جانبها، نفت وزارة الإعلام وقوع أي انتهاكات، وزعمت أن سكان السومرية “كانوا يقيمون على أراضٍ تابعة للدولة”، وأن التدخل الأمني “جاء بعد مشاجرات محلية محدودة”.
الاحتلال الإسرائيلي يعمّق الفوضى
وفي الجنوب، زادت العمليات العسكرية الإسرائيلية من تعقيد المشهد. فمنذ سقوط النظام السابق في ديسمبر الماضي، شنّت إسرائيل هجمات متكررة في محافظة القنيطرة، هدمت خلالها منازل وشرّدت عائلات بأكملها، وفق تقارير هيومن رايتس ووتش ومسؤولين محليين.
قالت هبة زيدان، الباحثة البارزة في شؤون سوريا بالمنظمة: “لا ينبغي أن تُمنح القوات الإسرائيلية العاملة في سوريا حرية تدمير المنازل وطرد العائلات متى شاءت”.
ويقول سكان المنطقة إن عشرات العائلات نزحت بالفعل، فيما وصفت إسرائيل عملياتها بأنها “إجراءات مؤقتة لحماية أمنها القومي”.
سوريا بعد الحرب: سلام بعيد المنال
وهكذا، بين نزاعات طائفية دموية، وصراعات على الأراضي والممتلكات، وتدخلات خارجية متزايدة، يجد السوريون أنفسهم بعد أكثر من عقد من الحرب عالقين في دوامة جديدة من العنف والنزوح.
فبالنسبة لكثيرين، لم يجلب سقوط النظام السلام المنشود، بل فتح فصلًا جديدًا من الانقسام والاضطراب، وكأن السلام الذي حلموا به لا يزال بعيد المنال، سلامٌ مؤجل في وطنٍ أنهكته الحروب وأعادته مرحلة “ما بعد الحرب” إلى حافة الانهيار