تقول تجارب الربيع العربي، بأن المظاهرات وحدها لا تصلح أداةً للتغيير نحو الأفضل، بل لا بد من ترافقها مع ظهور قوة تؤمن بالتغيير المنشود وتضمن لها الاستمرارية حتى تحقيقه، أو لا بد من حصولها في وقت تعاني فيه الدولة من ضعف في أركانها، بحيث تتوفر الفرصة للمتظاهرين للبروز كقوى أولى وأكبر تمتلك القرار، على أن يجري كل ذلك في محيط إقليمي ودولي راضي بالتغيير، وإلا كانت النتائج كارثية، أو احتاج الأمر إلى وقت طويل وخسائر فادحة لتحقق الثورات نتائجها، وبالتالي تمكين الشعوب من قطف ثمارها.
أعيش في ألمانيا منذ أكثر من عقدين من الزمن، شهدت خلالها كثيراً من الاحتجاجات والاعتصامات وقد كان آخرها أمس، حيث مررت باعتصام لعشرات في شارع قريب في المدينة التي أقيم فيها، وقد تم إغلاقه بحراسة عدد مماثل من عناصر الشرطة، للمطالبة "بمزيد من الديمقراطية". بالإضافة إلى إغلاق الشارع، تم بناء برجين خشبيين بعلو أكثر من مترين على بعد خمسين متراً من بعضهما، في بداية الاعتصام ونهايته، وقد اعتلا كلاهما خطيب بقي يتحدث باستمرار، وعندما عدت بعد ساعات، وجدت النشاط لا يزال مستمراً، وقد بدأت الشرطة بتفكيك "براغي" أحد البرجين بالمفكات، في حين شكل المعتصمون جدار حماية حول البرج الآخر.
لم تحقق المظاهرات الأوربية خلال الأعوام الماضية حسب متابعتي أي هدف وازن، وبقيت دائماً في إطار السماح بحرية الصراخ، إذ كان القرار دائماً لقوة البرلمان، والذي يفترض به تمثيل مصالح الأغلبية، التي لا تتقاطع بالضرورة مع أهداف هذه المجموعة من المتظاهرين أو تلك، مع الإشارة إلى عدم وجود نسب مشاركة مرتفعة في الانتخابات غالباً. بالمقابل، وجدنا بأن "حق الصراخ من شدة الألم" لم يتوفر للشعوب العربية، فقد كان الرد عليها عندما بدأت برفع صوتها؛ باستخدام قوة هائلة كما شهدنا، لم تغيّب الأصوات فحسب، بل محت أصحابها من الوجود، دون مبالاة بتدمير الأوطان وتهجير الشعوب، وارتكاب المذابح.
يبقى التغيير نحو الأفضل هدفاً للبشر، ومع توفر الإمكانية لكل فرد لتغيير شروط حياته نحو الأفضل، بعد اعداد نفسه ودفع الأثمان المترتبة على ذلك، يبقى التغيير العام بحاجة إلى كثير من العمل، من قبل قوى مجتمعية واعية فوق مستوى الاختلافات المجتمعية، تقوم بنشر ثقافة التغيير وأهميته والإعداد الجيد له، على أن يجري ذلك ضمن إطار عوامل ذاتية وموضوعية مساعدة، وإلا حمل كل تغيير بذور أزمة قادمة، بحيث تبقى الأزمات تتوالد باستمرار، ولا تحقق سوى مصالح هذه الفئة أو تلك في كل مرة، ثم لا تلبث أن تصبح عبئاً على غيرها.