شهدت مدن وبلدات في محافظة الحسكة قبل أيام، احتجاجات شعبية هي الأولى من نوعها، بدأت بعد قرار إدارة حزب الاتحاد الديمقراطي رفع أسعار المحروقات إلى ثلاثة أضعاف، وانتهت بعد إعلان الإدارة في اليوم التالي تراجعها عن قراراها، فعادت أسعار المحروقات إلى سابق عهدها، لكن دون توفيرها وحل الأزمة التي يعاني منها السكان. وتشهد مدينة منبج هي الأُخرى توتراً حالياً، بعد انطلاق احتجاجات مدنية رداً على قرار الحزب تطبيق التجنيد القسري على أبنائها، توقفت مؤقتاً بعد قرار "مجلس منبج العسكري" تعليق القرار، واعتذاره من أهل منبج وإطلاق سراح المعتقلين منهم، وقد سقط خلال الاحتجاجات التي شهدتها المنطقتين قتلى وجرحى.
شكّلت الاحتجاجات في الحسكة ومنبج تعبيراً عن مجموعة من الأزمات المستجدة في المنطقة، التي ارتبطت بظهور حزب العمال الكُردستاني فيها بعد الثورة السورية بالاتفاق مع نظام الأسد، والتي لم تكن تعني للحزب شيئاً من قبل، لكن ازديادها بمرور الوقت وتصاعدها، أصبح يقض مضجعه ويربكه، كونها باتت تشكّل خطراً عليه، ومؤشراً على فقدان دوره لأهميته وبالتالي تخلي حلفاؤه عنه. لقد اعتاد الحزب استسهال حل أزماته على حساب السكان دون أدنى اعتبار لأوضاعهم، وفي أزمة رغيف الخبز، والتي كان من أهم أسبابها بالإضافة إلى سياسة الاحتكار التي يمارسها، حرصه على إرسال النفط والقمح إلى نظام الأسد وبيعه إلى فصائل المعارضة، مقابل العملة الصعبة التي لا يوفرها له المشترون في مناطق نفوذه، بينما لا يخفى في مسألة التجنيد، مواظبة الحزب على توفير المقاتلين وإعدادهم رغم "الانفراجات العسكرية" في سوريا، جرياً على عادته في القيام بدور المقاول الذي يسد حاجة السوق من المقاتلين، وتوفيرهم مقابل عمولة كبيرة، تزداد بسبب حرصه على "تشغيلهم بنفسه" في جميع الجبهات.
منذ استلامه الملف الكُردي السوري من نظام الأسد بعد بداية الثورة، عمل حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكُردستاني التركي، على إنهاء الحياة السياسية في مناطق نفوذه، بدءاً بإفراغ الشوارع من المظاهرات المطالبة بإسقاط النظام، وجعل نشاطه موجهاً إلى ما وراء الحدود حيث تركيا، ومقتصراً على المطالبة بالإفراج عن زعيمه اوجلان المسجون هناك، ومحاولة فرض أجندته هذه على الأحزاب الكُردية الأُخرى المناوئة للنظام، باستخدام القوة ضدها، عبر خطف واحتجاز ونفي وتعذيب وقتل كوادرها، واقتحام مكاتبها وتخريب موجوداتها واحراقها، وصولاً إلى إغلاقها في نهاية المطاف. لقد فعل الحزب ذلك دون أن يخشى محاسبةً، ذلك أن أسهمه كانت مرتفعة في سوق الأزمات العسكرية، وكان من أهم موردي المقاتلين لمن يطلب وبأقل الأثمان، وكان صوت المعركة يعلو على أصوات الضحايا.
رغم كل إجراءاته القمعية وسلسلة طويلة من الأزمات المعيشية التي أوجدها، لم تشهد المنطقة احتجاجاً واحداً مناوئاً لإدارة حزب الاتحاد الديمقراطي، باستثناء وقفات صغيرة محدودة ضمت العشرات من أعضاء الأحزاب التي أنهكها قمعه، كانت تنتهي بسرعة بعد تدخله إلى أن توقفت نهائياً، وقد حدثت مصالحة بينه وبين الطرف الآخر المناوئ له مؤخراً، بعد سماحه لتلك الأحزاب بفتح مكاتبها، والتي أصبحت شريكة له في الحوار الكُردي الكُردي الذي انطلق قبل أكثر من عام، دون أن يحقق أية نتيجة حتى الآن، بحيث أن مشاركة المجلس الوطني الكُردي، المظلة الجامعة للأحزاب المعارضة للإدارة، اقتصرت على اصدار بيان متأخر مؤيد لمطلب المحتجين، مثلما كان المجلس يفعل عبر بياناته المتأخرة المؤيدة للمحتجين على نظام الأسد.
رغم أن بداية الاحتجاجات على رفع أسعار المحروقات بدت عفويةً، إلا أن بصمات حزب الاتحاد الديمقراطي ظهرت واضحةً عليها فيما بعد، بعد أن دفع بأنصاره إلى الشارع لسحب البساط من تحت أقدام المحتجين، وللمطالبة بما طالبوا به، لا بل المزاودة عليهم في الشعارات، مثلما كان يفعل إبّان الثورة السورية عبر شعاراته مرتفعة السقف، لاحتواء المظاهرات المناوئة لنظام الأسد، ليظهر الأمر في نهاية المطاف مثلما صورته إدارة حزب الاتحاد الديمقراطي وأنصاره؛ مجرد محتجون على إجراء اتخذته إدارتهم الديمقراطية، تحت مبررات مقتضيات المصلحة العامة، ثم استجابت لهم عملاً بنهجها الديمقراطي واستناداً إلى المقتضيات ذاتها، ليسجل الحزب فوزاً جديداً على خصومه المنهكين، ولا يتبقى للمحتجين الحقيقيين من انتصار، سوى شجاعة المبادرة في النزول إلى الشارع.
أما في منبج، فيبدو صعباً نجاح الحزب في سحب البساط من تحت أقدام المحتجين، ونسب تراجعه عن إجراءاته في التجنيد القسري إلى نفسه ومن ثم متابعة التحكم بالمنطقة مثلما كان يفعل من قبل، إذ أنه ومع صعوبة تمسك قوات سوريا الديمقراطية بقرارها في التجنيد مع تصاعد الاحتجاجات، فإن تنازلها المذل أمام المحتجين فتح عليها أبواباً كثيرة يصعب إغلاقها، ومنها ملف فساد الإدارة وثروات المنطقة التي تنهبها، والتي لم يعد ممكناً معالجتها موضعياً أو بطريقة التحايل، بعد أن فتح ما جرى في منبج أعين جميع اللاعبين الرئيسيين في المنطقة عليها مجدداً، والتضامن الواسع الذي أبدته مناطق المعارضة مع أهل منبج، بحيث بات صعباً الحديث عن عشائر عربية متحالفة مع قسد وأُخرى مناوئة لها، دون أن نغفل أصواتاً كُردية في مناطق نفوذها باتت ترتفع، وتطالب بالمساواة في مسألة التجنيد على الأقل مع منبج، وهو ما سيزيد من عزلة قسد وحصارها، سواءً تعاملت مع الأزمات المطروحة بالمواجهة أو التراجع.