انفجار عظيم، تجسدت من خلال انطلاقته بكثافة ملفتة، مجموعة رغبات ورؤى كان يختزنها الوعي الجمّعي النسوي النخبوي السوري على امتداد عقود، لعلها اللحظة التاريخية المنتظرة، نساء ملء العين تقتحمن الشوارع والساحات بعد أن كان ذلك محض خيال، أصواتهن تنطلق بنداء التغيير، نساء لم يعرفنّ السياسة يوما في مواجهة الموروث الصعب المقيّد أو السلطة المستبدة، كثيرات جداً لم يكن الانخراط أو التعاطي بالشأن العام ضمن اهتماماتهن حتى تلك اللحظة الفارقة، اليوم بات لهن موقف، وعيٌ بالذات الجديدة انبثق كبرعمٍ يحتاج إلى الكثير من العوامل لينضج ويتحول إلى ثمرة يانعة لذلك الواقع المتمرد، وفعل واعٍ يقاوم النكوص نحو واقع الاستسلام والموات الأصعب لو حدث وتمت خسارة هذا المدَّ الثوري المتأجج، التطلع للغد والحديث حول التغيير وضروراته، والفعل في الزمن الصعب كانت عناصر مشهدية جديدة تلامسها المرأة السورية في الأشهر ولربما السنة الأولى من الثورة السورية ، موجة نضال ليست لحظية في تلك الولادة المتعثرة فقد سبقتها نضالات نِسوية عميقة ولكنها معماه قبل انطلاق ثورة 2011 وما حدث بعدها من انزلاقات هامة وجذرية، ثورة حملت بذاتها النقيض والمفجّر حين لم يكن دعم حضور حقيقي للمرأة إحدى أهم أولوياتها، وحين اغتيل دور ووجود المرأة وفاعليتها فيها بفعل متعمد ، حصنته وغذّته الإيديولوجيا ، والعسكرة ، والخوف ، عوامل الاضمحلال والعودة لسجن العادة كانت متوفرة حين عُطلت الأسباب المؤدية لعكسها.
فما هي مفاصل هذا التراجع لدور المرأة السورية التي كان حضورها أحد أسباب انطلاق الثورة بذاتها، وغدا غياب ذلك الحضور وتشويهه أحد أسباب فشلها؟ لعلني في رصد لحظتين حساستين في تلك الأيام مثّلتا أمامي بؤرتين حقيقيتين ومركزا تعطيل، قرأتهما حينها بتوجسِ وانفعال من بدأ يتلمس إشارات الخسارة حين كان كثيرون يرونها تباشير نصر مؤزر، وبدا لي بأنني وغيري كثيرات جدا ممن انخرطن في صفوف هذا الثورة سنكون في مواجهة لاحقٍ زمنيٍ صعبٍ يُنهي هذا التوهج قريبا ولربما قريبا جدا.
زمن البدايات..
في الشهر الثالث للثورة كان تفاعل النساء حينها في ذروته والأفكار المبدعة التي تتمخض عنها عقولهن وإرادتهن جريئة ولافتة رغم ما يحاصَرن به من تخويف وقمع وترهيب، نساء بالآلاف في مدن عديدة يجبّن الشوارع يرفعن الصوت مطالبات بالحرية، وسلوكيات خارج مألوفهن بدأت بعض النساء الغير قلائل يمارسنها بجرأة وبإقبال غريب في ذات المضمار، هل كنَّ فعلا جادات في طلبها؟
هل كنّ يفقهن ماهيّة تلك الحرية التي يطلبنها؟ بدا لي وللجميع بأنهن كَسرّن الطوق وقطعّن كثيرا من الحبال التي تسوّر رقابهن، نعم هكذا يبدو، قبل أشهر قليلة جدا كنّ نساءً أخريات، عناصر دوائرهن الضيقة لا تشبه شيئا من هذا، اليوم يتابعن نشرات الأخبار ويتحدثن بالسياسة ويحفظن تصريحات الساسة حول سوريا ويناقشنها، يخرجن للمواجهة وهي مواجهة حقيقية ربما تنتهي بالموت، منهن ربات بيوت غير متعلمات وأخريات عاملات ودارسات وطالبات، لا يهم.. فقد حدث الانفجار العظيم، ولربما استعدن أصواتهن أو يكدّن، قالت إحداهن في واحدة من المظاهرات بصوت عال [لم أكتشف بأني قادرة على الصراخ إلى هذه الأيام.. لقد استعدت صوتي فكيف اصمت بعدها].
في بحبوحة عام الثورة ألفين وأحد عشر ، تمرد واعتصام نسائي أمام البلدية وآخر أمام المحكمة، نساء معضمية الشام تعتصمن أمام قسم الشرطة حتى يتم الإفراج عن المعتقلين، ومثلها الدارانيات والدوميّات والغوطانيات يقتحمن المحكمة ويخرجن السجناء عنوة ويبقين حتى منتصف الليل يفترشن الشارع أمام البلدية في يوم آخر حتى يضّطر المسؤول في المحكمة للخروج إليهن بنفسه دون أية مظاهر عنفية ليعدهنّ بأن المعتقلين نهار يوم غدٍ سيكونون في بيوتهم، ينفضّ هذا الاعتصام محملا بثمرة وعد لربما يثمر، ومثله نساء حمص وحسب توقيت ساحة الساعة ينطلقن ، وكذا الحمويات والدمشقيات والبانياسيّات واللواذقة وغيرهن، الشوارع حبلى بالحياة.
توقفّن.. انتهى هذا الشطط.
يدلفُ الأهالي بالآلاف، نساءً ورجالاً يتدفقون نحو ساحة المظاهرة في مدينة عرفت الثورة مبكرا - دوما - اليوم سيشيع الشهداء الذين أسقطهم رصاص قوات الأسد الأمنية الذين هاجموا المظاهرة السلمية ولاحقوا المشاركين في الأزقة وقتلوا أحد عشر منهم، كان الحدث جللا، لم يكن عداد الموت قد تحول بعد إلى دولاب أبهم اعتيادي في حياة السوريين بعد كان للموت هيبته وللقتل الوقح ايما أثر، نساء من دمشق ومن مدن الغوطة وغيرها من المدن السورية، قَدِمن إلى المدينة الخارجة عن الطوق سراً ليشاركن في هذا العرس المؤلم.. يُشيّعنَ الشهداء، ويتظاهرن ضد حكم الطاغية كما دأبن يفعلن غير مرة، أعداد النساء كبيرة، يبدأ انشطار المظاهرة الأفقي، إنه فعل مدبر، ينطلق صوت من الإذاعة المرتبطة بالمسجد الذي يُصَلى فيه على الشهداء بجوار ساحة المظاهرة والتي تحولت إلى اذاعة خاصة لتنظيم المظاهرات، تعلن بطريقة مرتبكة [أًخواتي التزمّن أماكنكن في هذه الجهة ولا تتداخلن مع الرجال لما في ذلك من إثم عظيم عليكن وعلينا، لا تحملنَ الرجال مالا يطيقونه من اثم بهذا الاختلاط].
تتجمع النسوة في المكان المشار إليه فلا واحدة منهن ترغب بافتعال اشكال رغم التمتمات والتململ والامتعاض والتساؤل الذي ابدينه حول هذا الطلب، " نحن في مظاهرة للمطالبة بالحرية " تقول إحداهن، قدِمنا مع عائلاتنا فلماذا هذا الشرخ؟، تتشابك الأيدي، مجموعة من الرجال يتحلقوا حول التجمع النسوي مشكلين صندوق مفتوح أسفل المظاهرة [أخواتي نحن هنا لحمايتكن حتى تغادر من ترغب بالخروج منكن براحتها...بيوتكن أولى بكن]. شيئا فشيئا يتحول الصندوق المفتوح إلى دائرة مغلقة تُحاصر النساء في مؤخرة المظاهرة.
يعلوا صوت إحداهن وقد غطت وجهها كما تفعل معظم المشاركات خوفا من أن ترصدن أو تعرفن [إخوتنا هؤلاء من لجان حماية المظاهرة عليكن السمع والطاعة حفاظا على حياتكن] تعليق أخرى كيف سيدافعون عنا؟ ومن أوكل اليهم هذه المهمة ولماذا يحاصروننا ويدفعون بنا إلى أخر المظاهرة ومنها إلى بيوتنا؟.. يعود الصوت [أختي عينهم أولو الأمر ومنظمي المظاهرة، هم هنا لحمايتك فالتزمي ضمن دائرتك ولا داعي للاختلاط] من أنت؟ يضيع الصوت وصاحبته في الرؤوس المغطاة.
تشابكت الأيدي وتراصت الأجساد حولنا بدائرة مغلقة حاصرت ضمن محيطها الداخلي جميع المتظاهرات، وضاقت عليهن حد الاختناق بدعوة الحماية، سلوك جديد قررته جهة ما لا عادة النساء إلى هامش العدم وقد كن في جميع المظاهرات السابقة يشاركن كمنظمات للمظاهرات، وهتّافات، جنبا إلى جنب مع باقي المتظاهرين، وفي كثير من الأحيان في المقدمة، دون تفرقة، فما الذي حدث اليوم؟! ببساطة قيل لنا لقد جاءت "الفتوى" حرامٌ الاختلاط، وحرام ألا يتم الفصل بين الرجال و"النسوان"، مسموح لكن المسير معنا حتى بلدية دوما وممنوع أن تتابعن المسير بعدها.. هكذا جاءت الأوامر!، امتثل عددٌ ليس بقليل من النساء رغم عدم معرفتهن بالجهة التي قررت ذلك ولكنه الخوف ، الخوف من أي شيء في هذا الوقت القلق ، ومع قرار المنع ، والذي دُعم بأصوات بعض السيدات اللواتي ظهرن فجأة في المظاهرة تحثُّ الأخريات على الامتثال، وعدم شق الصف !! بقي السؤال عائما أي صف؟ ومن هو صاحب القرار؟ وممن تُحمى المظاهرة وعند أول طلقة أطلقها عناصر جيش النظام نحوها تلاشت الدوائر ومعها الرجال أصحاب السياج ومن خلفهم المُسيَجات أنفسهن، الرافضات منهن والطائعات وتناثر الجمع وكل يحاول النجاة بحياته من وابل رصاص الموت، لم يبق في الساحة سوى صدى تلك الكلمات الجديدة التي ترددت على حين غفلة في المظاهرة والتي لا يُعرف مطلقتها فمعظم المتظاهرات يخفين وجوهن خوفا من أن تعرفن فيبتلعهن جحيم الأسد، رغم أهمية ذلك لأمن المتظاهرات ولكنه كان مثاليا لأي اختراق، وهنا بدأ اللعب ”لا تغضبوا الله بهذا التجمع والاختلاط، عدّن إلى بيوتكن واستترن هذه مهمة الرجال، اسمعوا فتوى المشايخ وأولي الأمر واتقوا الله بأنفسكن وبالرجال الذين تحمّلونهم عبء وجودكن وسلامتكن، ثورتك أختي في قلبك وهذا يكفي..“!.
كانت تلك الكلمات هي كل ما يحتاجه نظام الأسد لإجهاض هذا التمرد النسوي المفتوح وكبحه، إنه الفعل الأكثر تأثيرا مجتمعيا، وهو تماما ما يحتاجه البعض كخطوة أولى تجاه منع النساء من الخروج والمشاركة في المظاهرات بعد أن فرضن أنفسهن كلاعب أساسي في ساحة الثورة، وقد غدا للثائرات في معظم المدن والمناطق السورية الثائرة وجود يمكن أن يُبنى عليه كحامل لتغير مجتمعي أعمق في واقع أقل قتلاً وتهديداً ومحاصرة، بل إن أهم المظاهرات التي انطلقت بدءً من مظاهرة الحريقة في دمشق مرورا بمظاهرات الميدان وسائر مدن غوطة دمشق بما فيها المعضمية وداريا والزبداني وحمص ودير الزور ودرعا واللاذقية وغيرها الكثير كانت المرأة العنصر الأبرز فيها، بدأ التراجع شيئا فشيئا يعيد انتاج المشهد بقتامة أشد، ويعلن بأن لا ثورة سياسية حقيقية في غياب ثورة قيميّة اجتماعية لأجل الإنسان ذاته رجلا، وامرأة، تعيد إنتاج القيم والوعي والأفكار قبل أن تعيد انتاج شكل الحكم والمؤسسات.
اضطراب نخبوي.
يجتمع بعض ممن كانوا يعملون على تنظيم المظاهرات من نخبة مثقفي ريف دمشق ودوما تحديدا، كثيرٌ من الأمور يتم طرحها في هذا الاجتماع، كان اجتماع ذلك اليوم لتفنيد رد مناسب على طلب الأسد لقاء بعض الشخصيات في الغوطة ومن بينهم نساء، عددُ الحاضرات من النساء في الاجتماع واحدة فقط كنت أنا، أسأل أين الأخريات؟ وأضيف كثيرات هن المشاركات في التظاهر لماذا لم تتم دعوة بعضهن؟ يرد أحد الحاضرين وهو من النخبة السياسية المعروفة بجواب أشبه بلكمة على وجهي [لا داعي لوجودهن هنا ما نناقشه جدي]!، يستفزني الجواب ومع حساسية ما نحن فيه أبتلع لساني، ويتابع الحاضرون طرح الأمور الجوهرية والتي ليس من بينها أي شيء عما سألت عنه، أشارك بكل ما طرح وأطرح رأيا وبدائل يؤخذ ببعضها، ليصل حديثنا لمحور " المظاهرة القادمة " وماذا علينا أن نفعل، هناك جديد وغريب وغير مقبول أقولها، وأحكي عما حدث في المظاهرة السابقة وأشرح لهم كيف تم تغييبنا كنساء رغم حضورنا، وكيف تم خنقنا وحصارنا بطريقة غير مقبولة ومهينة، تشي بدفع النساء اللواتي شاركن بأعداد كبيرة للعودة إلى منازلهن، باستخدام "لجان الحماية" وحين تمت مواجهتنا بالرصاص هرب الجميع دون استثناء فمن يحمي من؟ وكلنا بذات القيد؟
رد صادم وغاضب من أحد المنظمين وبلغة مباشرة ودون تردد [معليش حاليا تأجليلنا الحكي الفاضي بقضية المرأة لبعدين لا تكبريها صديقتي، القصة أبسط بكتير مما تقولين، هؤلاء شباب أصحاب غيرة، ما فيك تواجهي المجتمع، اليوم ثورتنا سياسية لإسقاط النظام وكلنا هون مناضلين وسياسيين وحديثنا بشي أهم بكثير من قصة تحرير المرأة تبعك].. يسود الصمت دون أدنى تحفظ من الحاضرين، وتنّفضّ الجلسة، ويبقى السؤال حاضرا هنا من يحرر الأوطان حين نقصي النساء؟ من يمكنه أن يكون رافعة لتحرير المجتمع إذا غبن أو غيّبن؟ لم يمنعني الاجماع من الرد [لقد فشلتم اصدقائي في الامتحان حين تخليتم عن دوركم بتشجيعهن وتعزيز دورهن والإيمان به، فسيروا بساق واحدة نحو نصركم]
وما بين هذا الموقف وذاك.. يبدأ قطار الحج العكسي للنساء من جديد نحو واقع أشد قبحا ، وقد عرف المستبد مدعوما بمخرجات المسرح العبثي الذي صنعه بنفسه كيف يضرب بعصاه في مركبهنّ العائم فيغرقه، و أعّملَ كل ما لديه من عنف وقهر وقوة لمواجهة ثورتهن اعتقالا وقصفا وقتلا وحصارا وتجويعا، قتلهن وقتلَ أبناءهن وأزواجهن، هجرهن وشردهن، ومع انتشار مطّرد للسلاح وعسكرة الثورة وغياب المجتمع المدني، وانسحاب النظام من جميع المناطق الثائرة وحبس من فيها بها وحصارها لسنوات، ومعاقبة الحاضنة الشعبية للثورة، وايقاف وتدمير جميع المؤسسات الحكومية فيها، وتسلّمِ الفصائل العسكرية الغير مؤهلة للقيادة السلطة، وفرض أجنداتها المختلفة على المدنيين وفي مقدمتهم النساء كحلقة أضعف، غابت النساء من المشهد بفعل قسري، في هذه الأجواء الكارثية كانت المرأة مضطرة بفعل الدور الجديد الذي فرضته الحرب والنزوح والتشرد والحصار والجور والجوع والخوف وتفتت العائلات لأن تعمل وحيدة في كثير من الأحيان لتدافع عن وجودها ووجود عائلتها وتعيد خياطة كل هذا التمزق.