المحظور والممنوع والمسموح في الصحافة السورية اليوم

لقد سنَّ نظام الأسد السُنَّة وسار عليها طيلة عقود حكمه، لا صحافةً حرة في عرينه، لا أقلامَ تغرد خارج سرب ما يسبّح بحمده، كل كلمة تُكتبُ أو تقال لا يشّرعَن نشرها قبل مرورها من خرم إبرة الرقيب، المسألة ليست مُزحة فقد قطعت رقابٌ وسالت دماءٌ، وكانت المعتقلات في مرات كثيرة نهاية المطاف، ولم تستطع ثورة السوريين منذ انطلاقتها بدايات (2011) أن تغير قيد أنملة من رؤية نظام الأسد للصحافة ودورها وآفاقها بل زادت من تضيّقه عليها وخوفهَ وجبروته.

وصلت الرسالة مبكرا لمن يهمه الأمر وفهم الصحفيون السوريون تلك المعادلة كلٌّ حسب الموقع الذي وضع نفسه به وارتضاه، ورغم كل الأهوال التي شهدها السوريون خلال عقد كامل من الزمن بقيت المنابر الصحفية السورية الرسمية وغير الرسمية في مناطق سيطرة النظام تدور في فلك محرماته وتغمض عينها عن كل الجرائم والأحداث إلا ما يُرى منها بعين النظام، تُسيِّجُ نفسها مستلبة أمام سوط الرقابة بمخبرها الداخلي والخارجي، وتنشئ الحصون من حولها خشية الوقوع بمحظوراته ومحاذيره، ومن ينسى أو يتجاوزه فالذنب ذنبه وقد وقع بشر ما كتب أو ما قال.

المذيعة السورية هالة الجرف ظنت خطأ أنها في بلد قد يغفر لها قول ما يجب أن يقال دون عقاب، وإنه بإمكانها تجاوز المحظور وإطلاق قلمها وألمها فنالت ما تستحق وفق منظور النظام رغم أنها من جيش إعلامييّه وعظام رقبته، ومثلها كان سابقا مصير مدير موقع دمشق الآن المدعوم من أسماء الأسد شخصيا، حيث اختفى لأشهر طويلة دون أثر قبل أن يتم الإفراج عنه، بسبب بعض ما استسهل نشره في موقعه متجاوزا به الخطوط الحمراء وما يحظر نشره، ولايزال اتحاد صحفيي النظام يتابع فعل الخرس والتغطية على كل جريمة بحق الصحفيين السورين المؤيدين منهم والمعارضين بتهم تجاوز المحظور، متجاهلا قتل أكثر من سبعمئة صحفيٍّ وإعلاميّ في سوريا منذ آذار 2011 بينهم 551 على يد قوات النظام وحده، منهم52 قتلوا تحت التَّعذيب في سجونه، فيما قتل أكثر من مئة آخرين على يد أطراف الصراع الأخرى.

وفي الجانب الآخرَ لمعادلة الصراع أَمِلَ الكثير من الصحفيين السوريين المعارضين للنظام بأنهم بعد نجاتهم وابتعادهم عن بيئة العمل الصحفي القاهرة تحت رحمته وفي مناطقه بات متاحا أمامهم ممارسة العمل الصحفي بحرية، وضمانة، وكيف لا وهم أبناء ثورة، منابر صحفية سورية كثيرة انتشرت بسرعة كبيرة وبأسماء وعناوين ومحتوى متنوعا، بعضها تلقى دعما من منظمات دولية وأخرى حصلت على دعم دول أو جهات عربية، أو كانت ملكاً لأصحابها أو واجهات صحفية لجهات سياسية أو عسكرية بشكل معلن أو غير معلن، ومع كل هذا التنوع بقيت الشكوى مستمرة ولم ينتهي الحديث عن المحظور والمسموح والممنوع قوله أو نشره.

فما هي مشكلة صحافة المعارضة؟

يناقشني صديقي وهو صحفي سوري حول مشكلة صحافة المعارضة السورية مرددا قولا لصحفي بريطاني يدعى جورج أورويل حيث يقول " إن حرية الصحافة إذا كانت تعنى أي شيء على الإطلاق فهي تعنى حرية النقد والمعارضة " ويسألني هل لدينا صحافة حرة حقا؟ ويضيف: لقد رفضت ثلاثة مواقع الكترونية سورية تدعي بأنها حرة ومستقلة نشر مادة لي لأني انتقد فيها أداء مؤسسة سياسية رسمية تارة وفصيلا عسكريا أخرى، وكل موقع منها ينطلق برفضه من زاوية مختلفة ولكنها تتقاطع كلها بعدم الرغبة في خوض معركة الصحافة الحقيقية والانتصار للحقيقة، والغوص عميقا في البحث والنبش والمكاشفة، ومثله يتوقف صحفي آخر عن الكتابة للصحافة السورية "المعارضة" منذ أكثر من أربعة أعوام لأنها كما يقول لا تملك من قرارها إلا القليل، فهي لا تستطيع أن تغرد بعيدا عن سياسة داعمها ومواقفه من هذه الدولة أو تلك ومن هذه الجهة التابعة والمدعومة من تلك الدولة لنصل إلى مرحلة لا نتجرأ أن نقول شيئا دون أن يحسب علينا فنصمت.

تكبل الموقع السورية بفعل عدم الاستقلالية بأكثر مما يمكنها تحمله ليتحول عمل كثير منها شيئا فشيئا إلى التسطيح والمجاملة والاستسهال والنسخ واللصق طالما هو غير مكلف، ناهيك عن مواقع أخرى عديدة أنشأت باسم السوريين وبأقلامهم لتكون أداة مباشرة في حرب الدول وخصوماتها فلا يُكتفى أن يُستخدم الدم السوري في صراعات لا ناقة له فيها ولا جمل ، بل تتحول بعض منابر الصحافة السورية، وأقلام بعض صحفيّها لساحات ارتزاق، وأدوات صراع يحركها الغير ويخوض بها معاركه، وها هي تنتهي وتتلاشى حين تنتهي خلافات تلك الدول لتلفظ تلك الأقلام بانتظار مشغل جديد.

تخشى كثير من المنابر الصحفية السورية الخوض عميقا بمعارك تخصها تواجه بها المحظور والممنوع لأن كلفة ذلك كبيرةٌ عليها، ولأنها لا تملك دوما ما يؤهلها لخوض غمار تلك المعارك بما يلزمها من أدوات، وحماية، وخبرات، فتركن للسهل السطحي المكرر، على حساب مساحة حرية التعبير والعمل الصحفي المشاكس الجاد ضمن هذا الفضاء الواعد المُجهضْ، الممتد جغرافيا والمحدود تعبيريا، فمالك الموقع له كلمته وهي الأولى والأخيرة، وله سياسته وسلطانه فقد يحاسبك على أنفاسك لو أنها كانت على حساب مصلحته، وقائد الفصيل العسكري أو سلطة الأمر الواقع لهم كلمتهم طالما أن الصحفي أو منبره ينطلقان من مناطق نفوذهم، وكذا الدولة الفلانية لها كلمتها أيضا فتجبرك ضمنا أو علنا أن تقول أو لا تقول وفقا لتوجهها طالما أنك ضمن جغرافيتها، والممول له كلمته طالما هو المتحكم بما يجب أن يقال أو لا يقال رهنا بما يدفعه من مال، فيما تبقى الساحة الصحفية السورية رغم ارتباكها تناضل بجزء منها باحثة عن استقلاليتها وشخصيتها كسلطة رابعة وأداة للتغير.