(عن القدس العربي)
فاجأت كازاخستان التي تستضيف محادثات آستانا الرامية لإحلال السلام في سوريا في نسختها العشرين التي أقيمت في العشرين من هذا الشهر والرامية لإحلال السلام في سوريا بين روسيا وتركيا وإيران والنظام السوري، والمعارضة السورية إنهاء المحادثات بحجة عودة دمشق إلى الحاضنة العربية، وانهاء عزلة النظام.
إنهاء المحادثات الثلاثية
إذ أكد نائب وزير خارجية قازاخستان كانات توميش بشكل غير متوقع إلى إنهاء المحادثات الثلاثية، معلنا أن هدفها قد تحقق.
وقال للصحافيين “يمكن اعتبار خروج سوريا التدريجي من العزلة في المنطقة علامة على أن عملية آستانة أكملت مهمتها”.
ولكن موسكو قالت إن الاجتماعات يمكن أن تستمر في مكان آخر، وقال المبعوث الروسي الخاص لسوريا ألكسندر لافرنتييف “لا يمكن أن نقول إن عملية آستانة انتهت… لكن إذا قرر الجانب القازاخستاني أن هناك حاجة لنقلها إلى موقع مختلف، فسنناقش ذلك ونختار مكانا”، مضيفا أنه يمكن لروسيا وتركيا وإيران على سبيل المثال التناوب في استضافة الاجتماعات. .
وقد ناقش دبلوماسيون من الدول الثلاث (إيران، تركيا، روسيا) الوضع على الأرض، وخريطة الطريق، والعلاقات التركية السورية، والهجمات الإسرائيلية على سوريا.
وجاء في البيان الختامي “أن لا حل عسكريا للأزمة السورية، والالتزام بعملية سياسية قابلة للحياة، ومحاربة الإرهاب، ورفض الأجندات الانفصالية، وتهيئة الظروف لعودة آمنة للاجئين”.
اللعبة الكبيرة
هناك لعبة شهيرة في روسيا تدعى “ماتريوشكا” (وهي عبارة عن مجموعة من اللعب بأحجام متفاوتة متداخلة لا يظهر منها في البداية سوى اللعبة الكبيرة، وكلما فتحت لعبة ظهرت لعبة أخرى داخلها وهكذا إلى أخر أصغر لعبة” وسياسة روسيا تشبه كثيرا هذه اللعبة فهي تقدم نفسها أنها تخدم عملية سياسية كبيرة بهدف معين معلن لكن في الواقع تخفي لعبا أخرى داخلها تستدرجك من لعبة إلى أخرى، فمحادثات آستانا التي انطلقت في 23 كانون الثاني/يناير من العام 2017 بعد التدخل الروسي في سوريا الذي بدأ في العام 2015 بطلب من النظام السوري، بين الدول “الضامنة” (روسيا، إيران، تركيا)، كانت للوصول إلى حل سياسي، وتم الاتفاق بين الدول الضامنة على إنشاء آلية ثلاثية لمراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار، لكن إطلاق النار لم يتوقف حتى تاريخه، بل إن أول من ينتهك الاتفاق هم الروس، والإيرانيون، والنظام السوري.
كما اتفقت الدول الراعية للمفاوضات (تركيا، وروسيا، وإيران) على أن تكون المفاوضات بين وفدي النظام والمعارضة غير مباشرة، وكان وفد المعارضة يتكون من فصائل مسلحة (فيلق الشام، فرقة السلطان مراد، الجبهة الشامية، جيش العز، جيش النصر، الفرقة الأولى الساحلية، لواء شهداء الإسلام، تجمع فاستقم، جيش الإسلام)، وهذه الفصائل “غير المتحدة” كانت أصلا متناحرة فيما بينها يقودها محمد علوش زعيم جيش الإسلام.
وبالتالي لم تحقق شيئا من مطالبها التي حددتها في الإفراج عن المعتقلين، وتسليم المساعدات، تخفيف معاناة السوريين، وحل سياسي يستند على المرجعيات الدولية وعلى رأسها قرار 2254، إلا أنه لم يتحقق من مطالب المعارضة شيئا، والملفت للانتباه أن جولات أستانا السبع الأوائل نظمت خلال العام 2017، وانسحبت المعارضة المسلحة من المفاوضات في الجولة الثالثة بعد أن اشترطت أنها لن تبحث عن الحل السياسي مالم يتم وقف لإطلاق النار، والإفراج عن المعتقلين.
مناطق خفض التصعيد
مع الجولة الرابعة ظهرت لعبة مناطق خفض التصعيد إذ حددت روسيا هذه المناطق: محافظة حلب، محافظة اللاذقية، محافظة إدلب، والقنيطرة والغوطة الشرقية، ودرعا، وحمص، وريف حماة. على أن يتم تطبيقها لمدة ستة أشهر قابلة للتمديد، وقالت المعارضة إنها غير معنية بهذا الاتفاق، لكن في واقع الأمر أن الجولة الخامسة تم فيها رسم خرائط مناطق خفض التصعيد (وعلى أساسها تم الانسحاب المؤلم من مدينة حلب وتسليمها للنظام)، وظلت منطقة إدلب محط خلاف كون معظم الفصائل المسلحة تتمركز فيها وخاصة هيئة تحرير الشام (النصرة سابقا) كبرى الفصائل والمصنفة “إرهابية”
وقد شارك في هذه الجولة ممثل الأمم المتحدة ستيفان ديميستورا، وممثل عن الولايات المتحدة ديفيد ساترفيلد، ووفد أردني، وآخر قطري كمراقبين. وتتلخص هذه اللعبة بتجريد الفصائل المعارضة المسلحة من أسلحتها الثقيلة، والانتقال إلى محافظة إدلب مع جزء كبير من المدنيين في هذه المناطق. وبمفهوم آخر أن المعارضة المسلحة سلمت الأرض والأسلحة وكل شيء دون أي مقابل. بل أنها حشرت جميعها في مصيدة إدلب، حتى أن بعض قادة الفصائل إما قتل أو تخلى عن العمل العسكري، وعلى رأسهم كبير المفاوضين محمد علوش الذي تحول إلى رجل أعمال ومطاعم في تركيا.
المصالحات الوطنية
في الجولة السابعة من العام نفسه التي انطلقت في تشرين الأول/أكتوبر حضرت المعارضة وممثلو النظام والدول الضامنة وقامت المعارضة بعرض وثائق حول قيام الميليشيات الإيرانية وقوات النظام بمجازر مروعة، وتدمير البنى التحتية في كل المناطق الخارجة عن سيطرة النظام بهدف التهجير القسري للسكان لتتمكن من التغيير الديمغرافي.
وقد لعبت روسيا لعبتها المشابهة لمناطق خفض التصعيد، تحت عنوان المصالحات الوطنية، وتتمثل بتسليم المعارضين أنفسهم للنظام لتتم معهم عملية مصالحة دون أن يتعرض أحدهم لعقاب أو لحساب، لكن الواقع كان شيئا آخر، فعدد كبير من الذين تمت عملية المصالحة معهم تم اغتيالهم تدريجيا، وخاصة القياديين السابقين للفصائل.
وتستمر المواجهات والاغتيالات في أكثر من منطقة وخاصة في درعا التي تستمر في التمرد والمعارضة، ويقوم النظام بقواته والميليشيات الرديفة بقصف المدن وارتكاب المجازر في مدن حوران.
لعبة الدستور
منذ بداية محادثات أستانا كانت روسيا تتصرف كالحاكم الفعلي في سوريا، وقد نوهت منذ البداية على أنها تقوم بصياغة دستور لسوريا وتعرضه على النظام والمعارضة، وكانت محاولة للالتفاف على قرارات الأمم المتحدة (مع أن القرار الأممي 2254 تضمن إنشاء لجنة مشتركة من النظام والمعارضة لصياغة الدستور) وقد تمت صياغة دستور “جاهز” لا يمكن وصفه إلا بدستور دولة محتلة، لا يشارك به أي خبير قانوني سوري أو لجنة صياغة دستور قانونية، وأثار نص الدستور المعروض استهجانا كبيرا ورفضته المعارضة (اللجنة العليا للمفاوضات برئاسة رياض حجاب)، خاصة وأن روسيا قد أجلت اجتماع الأمم المتحدة في جنيف مع الممثلين السوريين دون إذن أحد، ويبدو نص الدستور وكأنه تم تفصيله على مقاس رغبات النظام السوري والدول المحتلة سوريا (روسيا وإيران)، فالنص ألغى صفة العربية عن الدولة السورية، فأصبحت الدولة السورية فقط، (وهذا ما كانت ترغب به إيران)، وتم إلغاء ديانة الرئيس والإسلام كمصدر رئيسي للتشريع، وإلغاء اسم الجلالة من القسم الذي يؤديه رئيس الجمهورية فيصبح أقسم بدلا من أقسم بالله، وتم إسقاط بند أن يكون المرشح لرئاسة الجمهورية من أبوين سوريين، ولكن فقط أن يكون قد أتم الأربعين من عمره، ولم يحدد الفترات الرئاسية المسموح بها، وإنما فقط يحق للرئيس الترشح لمدة سبع سنوات قابلة للتجديد. وبنود أخرى لا تتوافق ومصلحة الشعب السوري ككل بل هناك تفضيل لبعض المكونات على أخرى.
وبعد رفض مشروع الدستور الروسي تم تشكيل لجنة صياغة الدستور حسب قرار الأمم المتحدة وانطلقت الجولة الأولي في تشرين الأول/أكتوبر 2019، واستمرت الجولات المكوكية دون أي تقدم يذكر بسبب تسويف النظام وتقديمه لمطالب تعجيزية وانتهت الجولة الثامنة بخيبة أمل المنسق الأممي غير بيدرسون، وقام بتأجيل الجولة التاسعة وبحسب رئيس وفد لجنة تفاوض المعارضة هادي البحرة، فإن بيدرسن أبلغه أن التأجيل جاء بسبب إخطاره من قبل الرئيس المشترك الذي يمثّل النظام السوري أن “وفده سيكون مستعدًا للمشاركة في الدورة التاسعة فقط عندما تتم تلبية ما وصفها بالطلبات المقدمة من الاتحاد الروسي”.
وأضاف:” هذا المطلب يشكل إمعانًا في التهرب من مستحقات تنفيذ قرار مجلس الأمن2254، كما يُثبت وضع النظام السوري المصالح الأجنبية كأولوية على المصالح الوطنية السورية”.
وهذا ما يؤكد أن روسيا ما زالت تلعب بمقدرات مستقبل سوريا والشعب السوري، وهكذا يبدو واضحا أن روسيا لعبت الدور الرئيسي في المراوغة وخداع المعارضة التي وقعت في الأحابيل الروسية.
واليوم مع توقف محادثات آستانا (ربما لأن الدولة المضيفة سئمت من عشرين جولة تدور في حلقة مفرغة، أو من طلب روسي بالخفاء) يبدو أن لعبة الماتريوشكا الروسية تقترب من نهايتها لأنها منشغلة بالحرب الأوكرانية وبتمرد قوات فاغنر، وكما يقول المثل الفرنسي صار “لديها قطط أخرى لتجلدها”.
كاتب سوري