قبل سبعة عشر عاماً، في الثاني عشر من آذار 2004، تدفق عشرات آلاف الكُرد السوريين إلى شوارع المدن والبلدات ذات الغالبية الكُردية، احتجاجاً على اطلاق قوات الأمن والشرطة النار على المدنيين العزل في ملعب مدينة القامشلي، بعد قيام بعض مشجعي نادي الفتوة من دير الزور باستفزاز مشجعي نادي الجهاد من القامشلي، قبل بدء مباراة مقررة بين الناديين، من خلال إطلاق هتافات مسيئة للكُرد ورموزهم، وإلقاء الحجارة على الجمهور في الملعب، الأمر الذي استغله نظام الأسد الذي كان دفع بالأوضاع إلى الاحتقان، بسبب مشاعر القلق التي أخذت تنتابه من جراء قيام الأمريكيين بإسقاط النظام العراقي السابق، فأظهر - صراحةً هذه المرة - انحيازه إلى طرف سوري على حساب آخر، بدلاً من أن يكون مظلة جامعة وعامل تهدئة بين الطرفين، وأطلقت قواته النار على جمهور الجهاد الأعزل، فسقط ثلاثة قتلى وعدد من الجرحى.
كانت الانتفاضة الكُردية 2004، التي سبقت الثورة السورية على نظام الأسد بسبعة أعوام، شبيهةً بالثورة في كثير من وقائعها وطريقة تعامل النظام معها. فعندما اندفع مزيد من الكُرد إلى الشوارع في اليوم التالي؛ للاحتجاج على أعمال القتل وتشييع ضحايا رصاص النظام، واجهت قواته الحشود الكُردية بمزيد من الرصاص، وهو ما شاهدناه خلال الثورة السورية، عندما استهدف النظام المشيعين حتى في المقابر، خلال دفنهم ضحايا رصاصه. لم ينجح القمع المنفلت من العقاب الذي استخدمه النظام في كسر الانتفاضة الكُردية، بل ساهم في توسيع رقعتها، من خلال مشاركة المزيد في الاحتجاجات على أعمال القتل، الأمر الذي واجهه النظام بدوره بمزيد من الرصاص، لترتفع أعداد القتلى والجرحى، وأطلق العنان لمواليه للقيام بخرق حرمة بيوت الكُرد ونهبها، ونهب محلاتهم التجارية وممتلكاتهم، وهو ما عُرف سورياً بعد بداية الثورة السورية (بعمليات التعفيش)، حيث شاهدنا جنود جيش النظام وعناصر ميليشياته، وهم يعفّشون بيوت المواطنين السوريين وممتلكاتهم في المدن الثائرة عليها، ويفتتحون (أسواقاً شعبية) لبيعها.
إلى جانب العنف الشديد واطلاق الرصاص الحي على المواطنين العزل، والتلويح بارتكاب مجزرة؛ بطريقة ذكَّرت بمجزرة حماة التي ارتكبها أوائل ثمانينات القرن الماضي، من خلال نقل أسلحة ثقيلة إلى المنطقة، ونشرها في معسكرٍ ببلدة هيمو الواقعة غربي مدينة القامشلي، واعتقال مئات المنتفضين وتعذيبهم بشدة وقتل بعضهم تحت التعذيب، لجأ نظام الأسد إلى الحيلة لإيقاف الانتفاضة، فعمل على التهدئة وأطلق الوعود الكاذبة بالوقوف على ما جرى، وعندما وجد الكُرد أنفسهم وحيدون في مواجهة آلة القتل، وأيقنوا بأنهم أمام نظام تجرد من جميع عوامل المسؤولية، ومستعد للمضي في أعمال القتل دون رادع حتى إذا كانت النتيجة إبادتهم، تراجعت الاحتجاجات وبدأت موجة لجوء فراراً من الملاحقة والأعمال الانتقامية نحو إقليم كُردستان العراق، حيث وصل مئات الكُرد الذين شكَّلوا طلائع اللاجئين السوريين؛ الذين وصل مئات الآلاف منهم إلى الإقليم، بعد بداية الثورة السورية.
استمر نظام الأسد في التضييق على الكُرد والانتقام منهم، وكان أحد اجراءاته هو اصدار مرسوم جمهوري يمنع التصرفات على العقارات في المناطق الحدودية؛ إلا بعد الحصول على ترخيص من ثلاث وزارات منها وزارة الداخلية، الأمر الذي أصاب المنطقة بالشلل الاقتصادي، خصوصاً أن اجراءاته تلك تزامنت مع جفافٍ ضرب المنطقة لثلاث سنوات متتالية، ما دفع الأهالي إلى النزوح نحو المدن السورية الأُخرى، وتشكّل ظاهرة أُطلق عليها تسمية (أكراد الخيام)، الذين لم يجدوا مأوىً لهم سوى في أحزمة المدن الكُبرى مثل دمشق. استمر نظام الأسد في زرع الفتن بين السوريين، واللعب على المشاعر السلبية التي نجح في خلقها بينهم، حيث عمد إلى خطف رجل الدين الكُردي المعتدل، د. معشوق الخزنوي في دمشق، وقتله تحت التعذيب ومن ثم دفن جثمانه في مدينة دير الزور بعد التنكيل به، وليكشف بعد ذلك عن العملية من خلال مسرحية سطحية عرضها على شاشة تلفزيونه، حيث اتهم ثلاثة من أبناء المدينة الأخيرة بقتله، على أمل أن يدفع ذلك إلى أعمال انتقامية بين المواطنين العرب والكُرد في المدن الشرقية.
إلا أن المواطنين السوريين كانوا تجاوزوا بوعيهم ألاعيب نظام الأسد، وعندما انطلقت الثورة السورية في آذار 2011، وجدوا أنفسهم يهتفون بصوت واحد بسقوط النظام الاستبدادي، بعد أن أسقطت الثورة الحواجز التي زرعها بينهم وكشفته على حقيقته؛ نظامٌ عائلي لا هدف له سوى الحفاظ على السلطة بأي ثمن، وكانت بداية انضمام الكُرد إلى الثورة على النظام، هو في جمعة التضامن مع مدينة درعا، التي كانت تتعرض للحصار وأهلها للقتل، ليسمي السوريون بعد ذلك احدى جمع ثورتهم (جمعة آزادي/الحرية)، وليهتف السوريون للآزادي، التي طافت على أجنحة الثورة السورية حول العالم، وليعمّد الثوار الكُرد بدمائهم الثورة السورية، التي أعادت تقسيم السوريين على أسس موضوعية، بين أحرار ثائرين على الاستبداد، وقتلة مستفيدون منه، يعملون على بقائه للحفاظ على مصالحهم.