عن القدس العربي
أيام تفصلنا عن الذكرى الحادية عشرة من انطلاقة الثورة السورية، ذكرى تحمل في طياتها آلام الدم النافر من الجرح كالرمح، ودمع لم يكفكف بعد. إحدى عشرة سنة اختلفت خلالها كل التركيبة السكانية، والعمرانية، والحالة المعيشية، وتمددت خلالها الطبقة الاجتماعية الفقيرة حتى أصبحت تغطي أكثر من 80 في المئة من الشعب السوري بعد تدني القوة الشرائية للعملة التي ركبت منحدرا حادا، وارتفعت نسبة الجريمة، وتأصل الشرخ الطائفي والعرقي، وتحولت دولة المخابرات إلى دولة مخدرات. وصارت السلطة المركزية تمثل شبه دولة في محيط “دول موازية”.
شبه الدولة المركزية
يمثل النظام اليوم شبه دولة مركزية تفقد السيادة على الدولة، فالمساحات الجغرافية التي تقع تحت سيطرته تشهد حركات تمرد، وخاصة في الفترة الأخيرة بعد رفع الدعم عن المواد الغذائية المدعمة كما يحصل حاليا في السويداء، وفي درعا ومنطقة حوران بشكل عام، كما تنتشر فيها ميليشيات مختلفة موالية إلى جانب قوات النظام التي لا تسيطر بالضرورة أمنيا على هذه الميليشيات التي ترتكب جرائم بحق المدنيين، كما تشكلت عصابات لإنتاج وترويج وتهريب المخدرات التي تعمل تحت إمرة أو مشاركة النظام الذي يجني الأرباح والتي تحاول بعضها العمل على حسابها الخاص خارج إطار كارتيلات مافيا الدولة التي انتهجت سياسة تأمين دخل من العملة الصعبة عن طريق ترويج المخدرات.
وقد ظهرت جليا بالاشتباكات المسلحة مع القوات الأردنية بعد عدة محاولات لتهريب كميات كبيرة من المخدرات نحو دول الخليج وخاصة المملكة العربية السعودية. إلى جانب ذلك مازالت فلول تنظيم “الدولة” تتحرك في أكثر من منطقة ولها خلايا نائمة وعملية تصفية رئيس التنظيم أبو إبراهيم القرشي في سوريا من قبل قوات أمريكية تتحرك بحرية دليل على ذلك.
ومنذ سنوات تقوم إسرائيل بانتهاك الأجواء السورية وبقصف مناطق تقع تحت سيطرة النظام بانتظام دون ردع أو رد، ولا نسمع منذ سنوات سوى تصريحات خلبية تتلخص أن النظام سيرد “في الوقت والمكان المناسبين”
الدول الموازية
تحولت سوريا خلال السنوات العشر الماضية إلى شبه دولة مركزية محاطة بدول موازية. هذه الدول الموازية تعمل ضمن أجندات تهم مصالحها مباشرة ولا تهم المصلحة السورية، بل تعمل على إطالة عمر النظام الذي يخدم مصالحها وليست لديه القدرة ولا السلطة ليؤطر وجودها ضمن ما تتطلبه الدولة السورية.
ومن المعروف أن أي نظام سياسي يستجير بنظام سياسي آخر سيكون رهينة له، والتاريخ يسرد مئات الحالات المشابهة لأنظمة سياسية كانت تستعين بالخارج وينتهي بها الأمر لأن تكون رهينة أو أن من جلبته لإنقاذها يكون أول من يقضي عليها. واليوم النظام السوري هو رهينة لكل الدول الموازية التي جلبها أو دخلت سوريا عنوة عنه.
إيران وميليشيات القتال
شكلت إيران أول دولة موازية في سوريا طلب منها النظام التدخل العسكري المباشر للحرس الثوري أولا بقيادة قاسم سليماني الذي تم اغتياله من قبل إدارة دونالد ترامب، ثم بميليشيات مختلفة (شيعية) من أفغانستان وباكستان، وميليشيا حزب الله اللبنانية، وقامت إيران ببناء قواعد عسكرية تحاول إسرائيل قصفها باستمرار. ثم قامت باستثمارات عقارية، وشركات تجارية، ومعاهد دينية (حسينيات) لنشر التشيع، وشراء منازل بأعداد كبيرة في مختلف المدن السورية للسكن أو استولت على منازل العائلات التي فضلت طريق اللجوء أو النزوح، لأعضاء وعائلات ميليشياتها ودعاتها، لتمتين وجود مستدام في سوريا، وخاصة في المناطق المتاخمة للحدود اللبنانية في الزبداني وبقين ومضايا وصحنايا والقلمون، لأن وجودها في سوريا يضمن وجودها في لبنان وتبقى صلة وصل بين طهران وميليشيا حزب الله.
روسيا الصغيرة في البلد
يعتبر التواجد الروسي في سوريا من أقوى وأمتن أطراف التواجد للدول الموازية في سوريا، فهو ربط هذا التواجد باتفاق قانوني مع النظام باستئجار قاعدة طرطوس وحميميم لمدة 49 سنة. ولكن روسيا تتصرف في سوريا وكأنها روسيا الصغيرة فهي تقوم بمناورات بحرية بإشراف وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في المياه الإقليمية السورية، وتنطلق طائراتها وتحط في مطار حميميم دون أخذ أي موافقة من الدولة شبه المركزية (النظام).
والروس يقومون بكل مهمات الوساطة بين المعارضات في المناطق المختلفة والنظام كما حصل في كل اتفاقات خفض التصعيد، والمصالحات العديدة كما فعلت مؤخرا في درعا والآن في السويداء. كما أنها تضع نصب أعينها على “كعكة” إعادة الإعمار التي تبلغ مئات المليارات وتسعى بكل الوسائل لتعويم النظام وعودته إلى الجامعة العربية، وهذا ما يجعل النظام أيضا رهينة في أيدي الروس، وليس مستبعدا أن تقضي عليه عندما تنتهي صلاحيته.
تركيا والأكراد
دخلت تركيا سوريا في مرحلة متأخرة، ولكنها على عكس روسيا وإيران فهي ضد النظام وتقف إلى جانب المعارضة، ولكن هدفها الأساسي ليس معارضة النظام بقدر مواجهة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) حليفة حزب العمال الكردستاني (ب ك ك).
وتستخدم قوات المعارضة (الجيش الحر) في عمليات عسكرية مختلفة ضد قوات “قسد” ويهمها بالدرجة الأولى السيطرة على الشريط الحدودي مع سوريا على عمق 30 كم كحاجز واق من القوات الكردية. ويبقى وجودها كورقة مساومة مع روسيا وإيران وأمريكا على حد سواء.
أمريكا ومواجهة الإرهاب
خلال السنوات العشر الماضية تقلبت السياسة الأمريكية في سوريا حسب متطلبات المرحلة، فلما كانت في البداية تدعم المعارضة السورية المسلحة، قامت بالتخلي عنها فيما بعد لصالح دعم قوات سوريا الديمقراطية (دون أن تكون حليفة معها) تحت غطاء محاربة الإرهاب وتحديدا تنظيم الدولة الإسلامية، وفي الوقت نفسه تضمن تواجدا موازيا للتواجد الروسي الذي تتعاظم أهميته بعد الأزمة الأوكرانية، إذ اكتشف الإدارة الأمريكية خطأ إدارة الرئيس السابق باراك أوباما ثم إدارة دونالد ترامب بالتراخي أمام التواجد الروسي الذي بات له مركزا على ضفاف المياه الدافئة المتوسطية يهدد فيه مباشرة حلف شمال الأطلسي في عقر داره، وقد اتضح ذلك جليا بعد الأزمة الأوكرانية، بمناوراتها موسكو العسكرية وطلب إرسال قوات من حليفتها روسيا البيضاء (بيلاروس) إلى سوريا لحماية قواعدها.
هذا الوضع المتعدد للدول الموازية أوقع سوريا في بئر غائرة القرار، ومن الصعوبة بمكان انتشالها منها على المدى المنظور خاصة وأن المعارضة السورية السياسية والعسكرية فشلت في فرض نفسها كمحاور موثوق به على المستوى الدولي فأداؤها كان جدا ضعيفا وغير مؤثر وقد ظهر جليا باستخفاف النظام والدول الموازية بها التي تتلاعب بالشأن السوري دون أن يكون لهذه المعارضة أي دور يذكر سوى أنها تمثل دور “كومبارس” في مهزلة لجنة المفاوضات لصياغة الدستور التي تعود منها دائما “بخفي حنين”.